في الثاني من فبراير عام 1982 بدأ الرئيس حافظ الأسد حملته العسكرية ضد مدينة حماة السورية، والتي انتفضت ضد حكمه الاستبدادي العسكري.
بغض النظر عن تفاصيل ما حدث فقد سقط ضحية هذه العملية الأمنية العسكرية وفق مختلف التقديرات ما بين ألف قتيل (حسب التقارير الدبلوماسية في حينها) إلى 40 ألف قتيل (وفق تقديرات اللجنة السورية لحقوق الإنسان)، وهدمت أحياء بكاملها على رؤوس أصحابها، كما هدم 88 مسجداً، وثلاث كنائس، ومناطق أثرية وتاريخية نتيجة القصف المدفعي، فيما هاجر عشرات الآلاف من سكّان المدينة هرباً من القتل والذّبح والتنكيل.
استغرقت تلك الحملة العسكرية 27 يوما حسب ما نقلته المصادر الموثوقة، وقد دُكَّتْ فيها المدينة دكا، باستخدام المدفعية الثقيلة، بل إن بعض الأحياء مثل حي الكيلانية والبارودية والزنبقي قصفت بالطائرات على من فيها من السكان !!!
في بعض الأحياء جمع الرجال والشباب صفا واحدا، ثم داستهم الدبابات، وبعضهم نقل إلى "تدمر" واختفى إلى الأبد (يقدرون بالآلاف).
بعد أكثر من عشرين يوما من المعركة (أو المجزرة) سقطت حماة، وبدأت عملية استباحة كاملة لكل شيء في المدينة المنكوبة، قتل للكبار والصغار والأطفال الرضَّع والشيوخ والنساء، اعتداء على الأعراض ليس له مثيل، وكل ذلك تحت قيادة السفاح رفعت الأسد، وبإشراف السفاح الأكبر حافظ الأسد.
غالبية المقيمين في سوريا لم يعلموا بالمجزرة إلا بعد أكثر من أسبوع من بدأها !
يقول لي صديقي (وهو سوري من مدينة حماة)، وكان يقيم خارج سوريا مع أسرته، أنه وأهله لم يعلموا بما حدث في مجزرة حماة إلا بعد انتهاء الحملة أصلا!
قواعد اللعبة في مجزرة حماة (وما ماثلها من مجازر) ثلاث : الأولى : ازعم أنك تقاوم الإرهاب ثم اقتل كما تشاء، والثانية : اخف الجثث ثم اكتب رواية أخرى للأحداث، الثالثة : امسح ذاكرة الأجيال لتضمن عدم المحاسبة.
يحاول "سيسي" ونظامه أن يطبق ما حدث في حماة، فهل نجحا في تطبيق قواعد المجزرة؟
بمتابعة ما حدث في الذكرى الثانية لمجزرة رابعة أستطيع أن أقول بكل ثقة أن ثورة يناير قد ربحت معركة الذاكرة، وأن الجريمة العظمى التي حدثت في الأربعاء الأسود 14 أغسطس 2015 ، أعني مجموعة مجازر رابعة العدوية قد سجلت في ذاكرة هذا الجيل، ولن يستطيع أحد أن يمحوها أبدا.
لقد نفذ "سيسي" ونظامه القاعدة الأولى بتفوق، فزعم أنه يقاوم الإرهاب، وملأ الدنيا ضجيجا عن حربه المزعومة، ثم ارتكب مجازره بقتل لا مثيل له في تاريخ هذا الشعب الطيب المسالم.
ولكنه حين حاول أن يخفي الجثث ليكتب روايته للتاريخ ... فشل !
وحاول نظامه أن يمسح الكثير من أرشيف الثورة على المواقع الالكترونية .. فوثق الناس هذه المحاولة البائسة !
لقد تغير الزمن، وكل شيء مسجل بالصوت والصورة، وتم توثيق المجزرة دقيقة بدقيقة، وفي كل يوم تظهر تفاصيل جديدة، ووثائقيات جديدة، وبطولات، ومآسي، وجرائم ... وهيهات أن يتمكن إعلامه المأجور على مواجهة هذا التوثيق العلمي !
وحين حاول "سيسي" أن يمسح ذاكرة الأجيال ... وجد نفسه محاصرا بتفاصيل مجازره، حتى أصبحت هذه المجازر تطارده، تمنعه من قمم دولية، تحرم عليه بعض العواصم الأوروبية، تضطره للهرب من المؤتمرات الصحفية، تجبره على الدخول والخروج من أبواب الخدم في الفنادق خوفا من المتظاهرين، وسوف يحاسب على مجازره حسابا عسيرا.
في الذكرى الثانية لمجازر رابعة ربحت الثورة حرب الذاكرة، العالم كله أحيا الذكرى في عشرات العواصم في قارات الدنيا.
أما في مصر ... فقد تذكر الملايين سائر التفاصيل، لم ينس الناس شهيدا واحدا، لم يتجاهلوا ميدانا من الميادين، لم يستهينوا بأي ذكرى مهما صغرت.
لقد عاش المصريون يوما بعد يوم، يتذكرون رابعة والنهضة، وميدان مصطفى محمود، وأحداث رمسيس، ومسجد الفتح، ومجزرة عربة الترحيلات ... وغيرها وغيرها.
لقد كان صوت الإدانة هو الصوت الأعلى في مصر والعالم كله، وتراجعت الأصوات المؤيدة حتى كادت تختفي.
لقد مرَّت أربعة عقود على مجزرة مدينة حماة، ورغم ذلك استطاعت ذاكرة الشعب أن تفرض الحقيقة، وأن تظهر رواية الضحية رغم كل جهود السجان.
ونحن اليوم في زمن السرعة، وفي عصر الكاميرات، وما استغرق أربعين عاما في الماضي لم يستغرق عامين في عصرنا الحاضر.
إن انحسار التأييد الشعبي لهذا النظام المسخ يبشرنا باقتراب النهاية، ولكن البشارة الكبرى ليست في انحسار التأييد ... بل في قدرة الناس على إلغاء الرواية الرسمية الكاذبة، والمحافظة على ذاكرتهم خارج إطار التدليس والتلفيق.
إن قدرة هذه الثورة العظيمة على ربح حرب الذاكرة (في هذا الوقت القصير) هو أكبر بشارة على أنها ستتمكن من صنع حدث كبير، يخلق انفراجة تجبر العالم كله على احترام حق هذا الشعب في تقرير مصيره، ونيل حريته.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...