
يصوت الناخبون في مدينة نيويورك الأميركية، اليوم الثلاثاء، لاختيار عمدتهم، في انتخابات حامية الوطيس داخل الحزب الديمقراطي نفسه بين زهران ممداني (34 عاماً)، وحاكم ولاية نيويورك السابق، أندرو كومو (67 عاماً). وهناك مرشح ثالث هو كورتيس سيلوا (71 عاماً)، عن الحزب الجمهوري، ولكن حظوظه بالفوز ضئيلة مقارنة بالمرشحين ممداني وكومو. وكان ممداني قد فاز على كومو في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، إلا أن الأخير، والذي شغل سابقاً منصب حاكم ولاية نيويورك، قرّر التنافس في الانتخابات العامة ضد ممداني مستقلا، اعتقاداً منه أنه يمكن أن يجذب الناخبين الجمهوريين، وكذلك المحافظين داخل الحزب الديمقراطي. وقد حصل على دعم من أصحاب العقارات والمليارديرات الذين تبرعوا بسخاء لحملته وضخّوا ملايين الدولارات من أجل فوزه. ومن أبرزهم على سبيل المثال، شركات العقارات وكبار الأغنياء بمن فيهم عمدة مدينة نيويورك السابق مايكل بلومبيرغ، والمستثمر بيل أكمان، وكلاهما صهيونيان مناهضان لحقوق الفلسطينيين وداعمان شرسان للسياسات الإسرائيلية. بل إن أكمان، كان من المحرضين ضد حركات الطلاب الجامعية المناهضة للحرب على غزة.
وبحسب آخر إحصائيات متوفرة، فإن زهران ممداني تمكن من جمع أربعة ملايين دولار أميركي من التبرعات لحملته الانتخابية، وجاء معظمها من أفراد صغار. في المقابل، حصل كومو على تبرعات بمقدار 12 مليون دولار، أغلبها من صناديق يدعمها أصحاب رؤوس الأموال.
ويرى مختصون أن الانتخابات لمنصب عمدة نيويورك هذا العام هي تنافس على خريطة طريق الحزب الديمقراطي الذي يعاني من هوة تتسع بين ديناصورات الحزب من المحافظين أو "الوسطيين"، وبين الجيل الجديد واليساريين بمختلف الأعمار، ولا يمكن اختزال هذه الهوة بالفارق بين "الأجيال"، وإن كان مهماً، لكن جذور الصراع الحاصل يسبق ممداني وظهوره على الساحة بسنوات.
بدأت الفجوة بشكل ملحوظ في عهد الرئيس بيل كلينتون، والذي أخذ الحزب نحو "الوسط"، لكن ذلك الوسط ابتعد مع الوقت أكثر فأكثر عن قاعدته العمّالية والطبقة المتوسطة وبدأ يغازل المحافظين ورؤوس الأموال، في محاولة مستمرة لاستدراج ناخبي الحزب الجمهوري الأقل محافظة أو الناخبين المستقلين بحجة "الوسطية". وعلى الرغم من نجاح تلك الاستراتيجية أحياناً على المدى القصير، إلا أنها أظهرت فشلها في نهاية المطاف مع ابتعاد أعداد كبيرة من الديمقراطيين عن الحزب، ما كلّفه في عدد من الانتخابات المفصلية وكذلك في فوز دونالد ترامب بالرئاسة مرتين. بل وبان فشل هذه السياسة الذريع في الانتخابات الرئاسية العام الماضي (نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، وانسلاخ قيادات الحزب الديمقراطي عن الواقع والقاعدة ورهانهم المستمر على إدارات حملات انتخابية سلبية، أي تركز على التخويف من ترامب ورؤيته وسياساته بدلاً من وضع سياسات واضحة تعيد الحزب إلى "الوسط اليساري"، أو تُقرّبه من قواعده القديمة بين ذوي الدخل المحدود والطبقات المتوسطة كما فعل بيرني ساندرز في طرحه التأمين الصحي للجميع ورفع الحد الأدنى للأجور وفرض ضرائب على الأغنياء والشركات الكبرى التي بالكاد تدفع الضرائب.
وحاولت قيادات الحزب الديمقراطي تبني جزء من تلك السياسات، لكن التغييرات كانت تجميلية أكثر منها جذرية وازداد اقترابها وارتباطها من الارستقراطية المالية في الولايات المتحدة وأصحاب الشركات ورؤسائها ارتباطاً مشبوهاً، من تشابك المصالح السياسية بالمالية والتخادم بينهما. كما استبعد الحزب الأصوات الداخلية الأكثر تقدمية والمطالبة ببرامج تتعلق بالصحة وزيادة الضرائب على الأغنياء والبرامج الاجتماعية وغيرها، ناهيك عن السياسات الخارجية بما فيها المتعلقة بفلسطين، وخصوصاً بعد الإبادة، ودعم الرئيس السابق جو بايدن وحزبه غير المشروط لها.
صراع داخل الحزب الديمقراطي
إن تنافس زهران ممداني على منصب عمدة نيويورك يمكن رؤيته نزاعا على مسار الحزب ومستقبله، وهو نزاع بدأ منذ سنوات، لكنه يشتد الآن، حيث إن انتداب كومو لمنافسته هو محاولة جناح الحزب المحافظ إيقاف مدّ القيادات التقدمية الشابة (يذكر أن استطلاعاً لموقع أكسيوس وgeneration lab، نشرت نتائجه الأحد، أظهر أن 67% من طلاب الجامعات في الولايات المتحدة ينظرون بإيجابية إلى كلمة اشتراكية، بينما ينظر 40% فقط بإيجابية إلى كلمة رأسمالية، وربط الموقع النتائج بأنها تأتي قبل أيام من انتخابات عمدة نيويورك التي يترشح فيها ممداني).
وكان كومو حاكماً لنيويورك، ويتحدر من سلالة سياسيين، حيث كان والده، ماريو كومو، حاكماً للولاية أيضاً. لكن أندرو كومو اضطر للاستقالة من منصبه بعد دعوى اتهامات بالتحرش الجنسي رفعتها ضده 13 امرأة في عام 2021. وبعد استقالته، أغلقت جميع التحقيقات ويبدو أن محاميه تمكن من التوصل إلى صفقات مع عدد من النساء وإسقاط الدعوى.
ويدعم العمدة الحالي لنيويورك، إريك أدامز، كومو في السباق لخلافته. وكان أدامز تراجع عن التنافس لولاية ثانية بعدما أصبحت حظوظه ضئيلة ليصطف خلف كومو. وأدامز اتهم بقضايا فساد، ولكن لم يحاكم حيث أسقطت وزارة العدل الأميركية، بعد تولي ترامب الحكم، تهم الفساد الفيدرالية الموجهة ضده في إبريل/نيسان 2025، بناءً على أمر من كبار مسؤولي إدارة الرئيس الجمهوري، وهو القرار الذي دفع إلى استقالات عديدة داخل وزارة العدل بسبب مخاوف بشأن التدخل السياسي.
وأصدر ترامب عدداً من التصريحات النارية ضد زهران ممداني وبشكل مكثف منذ فوز الأخير بالانتخابات التمهيدية للحزب، الصيف الماضي، واصفاً إياه "بالشيوعي المتطرف". لكن الهجمات لم تأت فقط من اليمين، فممداني، وهو ابن عائلة مسلمة، واجه وابلاً من التحريض ضده بصفته مسلماً بما في ذلك من داخل حزبه. فقد ادعت عضو مجلس الشيوخ الديمقراطية عن نيويورك كيرستن جيليبراند، أنه يريد نشر "الجهاد العالمي"، ولكنها اعتذرت في ما بعد عن تلك التصريحات.
وممداني مسلم من أصل هندي، مولود في أوغندا لأب من أوغندا، هو باحث معروف ويدرس في جامعة كولومبيا في نيويورك، وأم هندية (هندوسية) أخرجت عدداً من الأفلام المهمة. وقف ممداني دون أي هوادة ضد السياسات الإسرائيلية بين 11 متنافساً في إحدى المناظرات، حين قال إنه لن يذهب إلى إسرائيل، وحرص على الفصل بين اليهودية وبين الصهيونية وسياسات دولة إسرائيل، ما أثار موجة من الغضب بين مؤيدي إسرائيل لتبدأ حملات تشويه ضده نعتته باللاسامية. لكن اللافت أن ممداني تمكن من اجتذاب أصوات الشباب اليهود الأميركيين. وإذا فاز بمنصبه، سيكون أول عمدة مسلم ويعادي علناً السياسات الإسرائيلية، وهو ما يثير حفيظة قيادات الحزب الديمقراطي بمن فيهم السيناتور النيويوركي تشاك شومر، المدافع الشرس عن سياسات إسرائيل والرافض حتى الآن الإعلان عن تأييده ممداني على الرغم من فوز الأخير بترشيح الحزب.
وأكد زهران ممداني تمكنه في حملته التي تتسم بالمرونة والقدرة على التواصل مع الناخبين وإيصال أفكاره دون تكلف واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يتفوق على منافسيه. وكانت رسائله واحدة ودون خطابية تزيد من الهوة بين الناخب والسياسيين كما يلاحَظ في حملات كومو مثلاً. ومن ضمن الوعود التي قدمها في حملته، جعل النقل العام عبر الحافلات في مدينة نيويورك مجانيّاً، وتجميد زيادات الإيجار وفرض ضرائب أعلى على سكان نيويورك ذوي الدخل المرتفع جداً. وحدّد ممداني طرقاً واضحة لتمويل تلك الخطط. ولم يتردد في الدخول في "محرمات" السياسة الخارجية الأميركية ووصف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية. كما قال إنه سيعتقل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إن وطأت قدماه نيويورك حيث صدرت بحق الأخير مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب. أما كومو فقد انضم للفريق القانوني المدافع عن نتنياهو.
ويستخدم كومو (وأدامز كذلك) ومناصروهما في الحملة أساليب استخدمت في أماكن أخرى ونجحت. على سبيل المثال، في مدينة بافالو في ولاية نيويورك، عندما فازت مرشحة ذات أجندة "اشتراكية ديمقراطية" (إنديا والتون) بالانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، لمنصب عمدة المدينة، في 2021، أغلب صقور الحزب لم يدعموها وبعضهم انتظر حتى اللحظة الأخيرة للإعلان عن دعمه الخجول. أما منافسها (بايرون براون)، الذي خسر الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي، قرّر مثل كومو خوض الانتخابات العامة وتمكن من الفوز ضدها.
يضاف إلى الحملة المعادية لممداني وبرنامجه الانتخابي الذي يحاول معارضوه داخل الحزب الديمقراطي تصويره على أنه "غير واقعي" ورسمه شخصا من دون خبرة سياسية (يشغل حالياً منصب عضو الجمعية التشريعية لنيويورك عن منطقة كوينز)، أخذ الهجوم عليه طابعاً عنصرياً، طاول حتى طريقة أكله باليد أو ديانته وغير ذلك.
أوباما يدعم زهران ممداني
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد تمكن زهران ممداني من الحصول على تأييد عدد من الشخصيات المهمة في الحزب الديمقراطي، آخرها إعلان الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أول من أمس الأحد، عن اتصاله بممداني واستعداده أن يكون ضمن مجلسه الاستشاري في حال فاز. كما أعلن ساندرز عن تأييده له وكذلك حاكمة ولاية نيويورك كاثي هوكل وغيرهم.
وأظهرت آخر استطلاعات للرأي صدرت عن كلية "إيمرسون"، الأحد، أن ممداني يتقدم على كومو بفارق 26 نقطة مئوية وأنه مستمر بالحفاظ على تقدمه. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه خرج من دائرة الخطر حيث ما زال هناك اعتقاد أن لدى كومو حظوظاً بالفوز على الرغم من تقدم ممداني. ويوم أمس الاثنين، نشرت صحيفة نيويورك تايمز، حصيلة آخر مجموعة من الاستطلاعات، أظهرت أن ممداني يتقدم على كومو في أعلاها بفارق 26 نقطة، وهي لـ"إيمرسون"، وأدناها بفارق سبع نقاط مئوية، وهي لشركة "أتلاس إنتل"، لكنه متقدم في جميعها، ومن بينها لجامعة كوينيبياك، بفارق 10 نقاط، و15 نقطة لمعهد مانهاتن.
وكانت استطلاعات الرأي في حملات انتخابية سابقة قد أظهرت تقدم فريق بعينه وبفارق كبير ليتضح لاحقاً أنها أخطأت. وحذّر ممداني، كما بيرني ساندرز، الناخبين من الاعتماد على ذلك وعدم التوجه للتصويت. وقال ممداني مخاطباً ناخبيه، بأن عليهم عدم تصديق الأصوات التي تقول إن الأمور تحت السيطرة وأن كومو وحملته انتهيا. وأضاف في آخر تصريحاته: "يجب ألا تصدقوا هذا. لن يستسلم المليارديرات بتلك السهولة، فهؤلاء هم الذين يتلاعبون باقتصادنا ويحاولون شراء الانتخابات".
في حال تمكن زهران ممداني من الفوز، وخصوصاً إذا كان الفوز بفارق كبير، فإن ذلك سيقض مضاجع الكثيرين في الحزب الديمقراطي الذين سيحاولون احتواءه والتخفيف من أهمية الفوز بوصفه "حالة نيويوركية" لا يمكن تطبيقها على بقية أميركا. ولكن قد يرى البعض بذلك فرصة لبدء سد الهوة داخل الحزب وشدّ عزيمة الشباب، خصوصاً أن ممداني اعتمد على 95 ألف متطوع لدعم حملته، وهو رقم ضخم حتى لمدينة مثل نيويورك، يبلغ عدد سكانها قرابة تسعة ملايين. كما يمكن للحزب الديمقراطي أن يتعلم الكثير من ممداني وحملته وقدرته على إيصال رسائله والتواصل مع الناس بشكل غير متكلف وإنساني. إن انتخابات نيويورك بقدر ما هي "محلية" ستكون لها تبعات كثيرة على مستوى الولايات المتحدة.