يُحكى أن أحد الملوك الذين ينظرون إلى شعوبهم على أساس أنهم كائنات مُسلِّية، رصد جائزة كُبرى لمن يُعلِّم حمارَه الكلام، وأعلن أن مصير الفاشل في هذه المهمة هو قطع رأسه بالسيف.
لم يتقدم لهذه المهمة سوى “جحا”، غير أنه اشترط على الملك إمهاله 20 عاما يعيش خلالها في القصر الملكي مع الحمار يُعلمه الكلام، فوافق الملك.
راح الجميع يُعنِّفون جحا لقبوله المهمة المستحيلة، فأجابهم بلهجة الواثق: أمهلتُ نفسي 20 سنة، وخلال هذه السنوات العشرين، إما أن أموت أنا، أو يموت الملك، أو يموت الحمار.
ذكّرتني هذه الحكاية بالوعود المستقبلية البرّاقة التي يُطلقها زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي على أسماع المصريين، في محاولات مستمرة للتغطية على فشله في إدارة البلاد.
من أبرز هذه الوعود، رؤية 2030 التي أطلقها في فبراير الماضي، والتي يزعم أنها ستنهض بمصر إلى مَصافِّ أفضل 30 دولة في العالم في مجالات شتى.
تلك الرؤية المضحكة التي صفّق لها محترفو التملُّق وعشاق الانسياق بعصا الفرعون، تنضمّ إلى أرشيف الوعود الكاذبة التي أطلقها السيسي -ولا يزال- مثل شبكة الطرق التي ستمسك مصر كلها، والمليون وحدة سكنية، وحلم تفريعة قناة السويس، وكلها باءت بالفشل، وما إن يتبين الشعب زِيفَها، حتى يُطلق الفرعون غيرها، وهَلُمَّ جرّا.
تختلف رؤية السيسي عن غيرها من الوعود من ناحية ضخامة الوعد، فهي تتعلق بنهضة شاملة تنقل مصر إلى مصاف أفضل 30 دولة في العالم، والأهم من ذلك ناحية المدى الزمني، فهي تتعلق بوضع مصر بعد 14 عاما، وهي فترة كفيلة بأن تشهد تغيرات جذرية في الدولة على طريقة تفكير جحا: يموت الملك، أو يموت جحا، أو يموت الحمار.
وكما قسَّم المختصون بالعلوم الإدارية الأهداف الاستراتيجية إلى: بعيدة المدى، ومتوسطة المدى، وقصيرة المدى، فإن السيسي كذلك ينوّع وعوده الزائفة، ما بين قصيرة الأمد تمثل المسكنات الخفيفة للشعب المصري لا لتهدئة الشعب المصري، وإنما ليجد مؤيدوه نغمة يرقصون عليها، وتسلم الأيادي، ما يدعم شرعيته أمام المجتمع الدولي.
ثم تأتي الأهداف بعيدة المدى كرؤية 2030، لتكون مشروعا جامعا يُدشِّنُه السيسي، يصبحُ القاطرة التي تقود عرباته المتهالكة على قضبان بيع الوهم للشعب.
وإنْ تعْجَب فعجبٌ أمر زعيم الانقلاب، يتحدث عن قفزة مصرية إلى مَصافِّ أفضل 30 دولة في العالم، بينما يئن شعبه تحت وطْأة الجوع والفقر والمرض والقهر والهلع.
خمسون ألف معتقل في السجون المصرية من معارضي الانقلاب، منهم أطفال وفتيات.
أسعار جنونية لا تكف عن الارتفاع، تطَال السلع الضرورية التي يقتات عليه الفقراء، ناهيك عن الارتفاع المضطرد في فواتير الكهرباء والمياه والغاز.
تكميم للأفواه، وتكسير للأقلام المعارضة، حتى نقابة الصحفيين قد أتى عليها في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصحافة المصرية.
تمكين للعلمانية بعد إغلاق الفضائيات والجمعيات والمنابر الإسلامية في ظل تسييس الأزهر وتقاعسه عن أداء دوره المنوط به.
تدمير لسيناء وتهْجير لأهلها لفتح الطريق أمام مخطط إقامة وطن للفلسطينيين في غزة وسيناء.
ظاهرة الاعتداءات التي ينفذها ضباط وأفراد الشرطة بحق المواطنين وصلت إلى حد القتل في وضح النهار من أجل كوب من الشاي.
تعاظم التغَوُّل الاقتصادي لجنرالات الجيش، الذين باتوا يسيطرون على معظم المشاريع الضخمة، ما جعل المستثمرين الأجانب يحجمون عن الاستثمار في مصر.
ميزانية الدولة تذهب لصالح المؤسسات التي تضمن له بقاء عرشه: الجيش والداخلية والقضاء والإعلام.
هجرة العقول فرارا من قتل المواهب ومصادرة حرية الرأي، ما جعل مصر تخسر ثروة ضخمة كان الأحرى استغلالها ورعايتها.
موت العملة المصرية، حتى وصلت قيمة الدولار إلى 11 جنيها مصريا، الأمر الذي انعكس على أسعار السلع المستوردة، وحتى المُصنَّعة محليا بخامات مستوردة، وأصبحت هناك موجة استغلال لارتفاع سعر الدولار، طالت البضائع المحلية، في ظل انفلات زمام السوق وغياب الرقابة الحكومية، وفي النهاية يكون المواطن البسيط هو الضحية.
بِربِّك كيف يتحدث السيسي عن رؤية بهذه الضخامة في ظل افتقاد المنطلقات الأساسية التي يمثلها وجود مساحة من التوافق الوطني، وقدر من الاستقرار الأمني والسياسي، وامتلاك الشعب قوت يومه؟
عندما تتحدث السعودية عن رؤية 2030، التي تنقلها من الاعتماد على النفط وتفتح لها آفاق أخرى، فهي لديها الكثير من مقومات تحقيق تلك الرؤية، أَمَّا أنْ يفعلها من قسَّم الشعب وعبث بلُحمته الداخلية، وجوَّع رعيته، فهو أمر مثير للسخرية.
كل هذه الأزمات -التي صنعها السيسي بالأساس- تدفعه لإطلاق وعوده المستقبلية الكاذبة؛ للتغطية على فشله، مستغلا ظهيره الشعبي الذي صنع منه في البداية بطلا قوميا خلّص مصر من خطر التيار الإسلامي.
بل حتى مع تفكك كتلة 30 يونيو، وانصراف كثير من رموزها وقواعدها عنه، ظل على حاله في إغراق الدولة في الفوضى وتقديم المسكنات (الوعود المستقبلية).
رؤية السيسي المستقبلية العظيمة التي يحفظ بها ماء وجهه، ويصفق لها الإعلام المأجور، يرى أنها لن تضره، فبينه وبينها 14 عاما،فإما أن يموت السيسي، أو يخرج بعد انتهاء عدة فترات له خروجا آمنا، وإما أن يموت الشعب عندما تنقطع الأصوات المعارضة، وتُقتل كل تطلعات الشعب وآماله، وتموت لديه أي رغبة في التغيير، وإما أن تموت الرؤية بِإطالة مداها الزمني، أو بتعديلها في ظل البلطجة السياسية وفرض الأمر الواقع بعصا الفرعون.