مصر على عتبة انهيار مدوٍّ غير مسبوق في تاريخها الحديث.. من لا يراه فهو يرغب في البقاء أسيراً في تصوراته الخاصة أو أمنياته الرومانسية.
ولا تكمن أسباب هذا الانهيار فقط في الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بسرعة الصاروخ بفعل مغامرات الفشل التي تخوضها السلطة القائمة، وإنما أيضا في ممارساتها الاجتماعية التي حرصت منذ 3 يوليو 2013 على أن يكون هدفها هو تجزئة الشعب وتفتيت تلاحم طوائفه بغرض تجنيب الخصوم والتخلص منهم، وفرز الأشياع وتجنيدهم لمعركة بقائها في الحكم.
وكذلك سياسة القمع التي استسهلت إزهاق النفوس والترويج لمعقولية القتل ما دام هناك احتمال خطر دون الاستعداد لمواجهة الخطر؛ حتى أصبح القتل جزءاً من الروتين اليومي لحياتنا. فلم يعد ما يستفز الكثيرين سقوط القتلى وإنما نوعيتهم أو انتماؤهم أو جهويتهم.
وتمثل العمليات الممنهجة لقتل كرامة الإنسان والاستهانة بالمواطن أحد الأساليب التي اتبعتها السلطة القائمة لقتل روح الاعتراض أو الرغبة في الإصلاح لدى فئات الشعب المختلفة؛ فسهولة الاقتياد للقسم وتناوب ممثلي الأمن على تعذيب الضحية أو ممارسة السادية عليه ليست سياسة فردية، بل سياسة منظومة ترغب في جعل قسم الشرطة هو المتحكم في ضمير أهل الحي والرقيب على أفكارهم والصنم الذي على الجميع أن يخشى غضبه.
هذا الترابط بين الفشل الاقتصادي والقمع الأمني وإغلاق الأفق السياسي يحتضنه الأخ الأكبر لهذا الثالوث وهو الفساد الذي يمنح كل ذلك ترياق الحياة عن طريق تجريف ثروة البلاد واقتسامها بين نفقات لازمة لتحكم السلطة بمقاليد البلاد وأموال مهربة للخارج لمواجهة احتمالات السقوط والفرار.
هذا السقوط المدوي الذي بدت إنذاراته في الأفق القريب جدا، تقابله ثلاثة سناريوهات لا فكاك منها.. قد تحمل في طياتها إنقاذ الوطن أو لا قدر الله سقوطه..
السيناريو الأول: هو أن تلجأ أدوات الدولة ذاتها -وليست جميعها بيد السلطة حتى الآن- إلى التحرك للتخلص من تلك السلطة وإعادة فتح الطريق أمام عملية إصلاح واسعة تشمل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي؛ لكن هذا الاحتمال للأسف ضعيف بقدر ضعف أدوات الدولة ذاتها المنهكة منذ عصر مبارك والتي لا تقل معاناة من التعسف والفساد عما يعانيه الشعب نفسه.
السيناريو الثاني: أن تنجح القوى السياسية والمدنية بمختلف توجهاتها في تجاوز الضغائن والإفلات من أحكام التاريخ المسبقة لتقود الشعب إلى حسم المعادلة لصالحه شريطة أن تتبنى رؤية واضحة لعملية الانتقال من حال الخطر إلى حال تجاوز الخطر ثم حال الإصلاح. لكن هذا الاحتمال أيضا يأتي في مرتبة متدنية بسبب استسلام ممثلي تلك القوى لضغط جماهيرهم التي لا ترى فارقا بين انقلاب ومن عارض الرئيس المنتخب أو، في الجهة الأخرى، تعتبر أن حكم السيسي هو الواجهة الأخرى لحكم الإخوان رافعين شعار لا عسكر ولا إخوان.
نحن أمام قيادات مطالبة بأن تقود الجماهير ناحية التلاحم والالتفاف حول مطالب الشعب، لكنها تقع للأسف أسيرة لمشاعر الجماهير بدلاً من أن تكون هي المؤطرة لهذه المشاعر والمصححة للمفاهيم. وهو ما يؤخر تجسيد كفاح الشعب وتضحياته عبر خمس سنوات بانتصار للحرية في مواجهة سلطة مفككة وضعيفة وخائبة.
أما السيناريو الثالث: فهو ترك الأمور على ما هو عليه، بحيث تبحث السلطة الفاشلة ذاتها عن وسيلة لتغيير واجهتها فتستبدل سيسي آخر بسيسي القائم معتقدة أن المشكلة في الصورة التي تُزين واجهة القطار وليس في مسار القطار نفسه.
ويبدو أن هذا السيناريو -في غياب روح المبادأة في صف القوى الوطنية- يسير على قدم وساق بدعم إقليمي وربما دولي. لكن منذ متى كان للإقليم أو للقوى الدولية دور في إنقاذ مصر من كوارث حكامها!
التجارب البعيدة والقريبة تُظهر أن تدخلات القوى الدولية منذ الحملة الفرنسية ثم التدخل في الشأن المالي أيام الخديوي إسماعيل ثم الاحتلال البريطاني وما تلا ذلك، لم يكن سوى لإعادة دمج مصر في منظومة التبعية وتحويلها من أمة صاعدة صاحبة دور إلى بلدٍ مريض لا يملك من أمره شيئاً.
أما الإقليم فإنه لا يملك لا من الإرادة ولا من القدرات ما يؤهله لتغيير مسار الأوضاع في مصر، فلولا وجود الباحثين عن الانقلاب داخل المؤسسة العسكرية وانقسام القوى السياسة وإطلاق العنان للإعلام الثورة المضادة لما استطاع الإقليم ولو اجتمع على قلب رجل واحد أن يغير شيئاً في الداخل المصري.
والآن لا يملك الإقليم أن يفرض بديلاً للسلطة القائمة، ما لم تسع أطراف من تلك السلطة للتعاون مع بعض دول الإقليم للقيام بذلك مقابل وعود بتعويم الاقتصاد المصري.
إن مصر بلد أكبر من قدرة الإقليم على التلاعب به، لكنه تُصبح أقل دول الإقليم شأناً عندم تكون قيادتها بالمستوى الذي هي عليه الآن.
ومع ذلك فإن تغيير السيسي بسيسي آخر لن يمنع الانهيار المدوي الذي يستشعره كل مواطن، فإن مجمل المسار الذي جاء بديلاً لمسار ثورة يناير ينطوي بذاته على الاندفاع ناحية الكارثة؛ فهو بكل بساطة يجذب كل عوامل الفشل ويمثل أفضل حواضن الفساد ولا يستمر إلا باستخدام أدوات القمع.
وحتى إذا تلاقى ذلك مع مصالحة مع بعض القوى المستعدة للتصالح مع السلطة مقابل إفراج عن قيادات وسماح بدور سياسي محدود؛ في محاولة لاستعادة المعادلة التي كانت قائمة أيام مبارك، فلن يمنع ذلك الانهيار المقدور؛ فالخمس سنوات الأخيرة من عهد مبارك نفسه كانت على طريق هذا الانهيار؛ وما هو قائم الآن لا يختلف عما كان قائما أيام مبارك سوى في زيادة درجة القمع.
الحقيقة أن العبء كاملاً يقع على أطراف الحركة الوطنية بكل تمايزاتها وألوانها، فهي وحدها تملك شفرة الإنقاذ لو توحدت، فلا يمكن لفصيل واحد منها أن يقوم وحده بهذا الدور، كما لا يمكن لها أن تقوم بذلك إذا تبنت مفاهيم الإقصاء التي تتبناها السلطة.
وستتحمل الحركة الوطنية وحدها وزر انهيار مصر -لا قدر الله- أمام شعبها والتاريخ، ولن يفيدها القول بأن هناك من أخطأ في إدارة الدولة قبل الانقلاب أو بأن بعضنا قد أيد الانقلاب خطأ في البدء معتقداً أنه يعبر عن ثورة، فالتلاوم مقامه مجالس السمر بعدما يكون الوطن بمأمن، أما في حالة تهدده بالغرق فإن المطلوب هو تشكيل فرقة إنقاذ.
أُدرك أن تجاوز الخصومات الشخصية أو الحزبية والتجاوز عن مواقف سيئة أمر شديد المرارة، لأنه يقتضي تواضعاً وعفواً وتلاقياً بين مختلفين طالما خوّنوا بعضهم أو شمت بعضهم في مصيبة لحقت الآخر.. لكن ذلك وحده القادر على تحقيق ما تمناه كل شهيد وهو يقدم روحه فداء لحلم التحرر من القهر، وكل معتقل وهو يمضي ما كان يمكن أن يكون أجمل أيام عمره في سجن ضيق يُلاقي فيه هواناً وتعذيباً.
لم يتبق كثيرُ وقتٍ لبكاء أو لمناورة.. فإما البدء بعملية إنقاذ أو الاستسلام لمقادير لا يتحكم فيها شعبنا..