Akhbar Alsabah اخبار الصباح

التجربة التركية فى التخلص من الهيمنة العسكرية

التجربة التركية يمكن القول إن المؤسسة العسكرية هي من أسست تركيا الحديثة، فقد عرفت تركيا الانقلابات العسكرية منذ عام 1908 والانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني، وسيطرة ضباط جمعية الاتحاد والترقي على الحكم، بعد إعلان مصطفى كمال أتاتورك سقوط الخلافة. والعسكر هم من وضعوا الدساتير بداية من عام 1924، ثم عام 1961، ثم انتهاءً بدستور 1982، والذي يستمر العمل به في تركيا حتى اليوم.

جرت العادة في تركيا أن ما إن تصل سلطة مدنية إلى الحكم تهدد الأسس العلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية، حتى يقوم الجيش بالانقلاب عليها، وعلى هذا الأساس كانت سلسلة انقلابات (1960 – 1971- 1980)، وأخيرًا الانقلاب ضد حكومة نجم الدين أربكان عام 1997.

لكن بعد فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية عام 2002م اختلفت الأمور، لتبدأ المؤسسة العسكرية في فقد زمام السلطة تدريجيًّا، لتعود إلى ثكناتها حتى اليوم، فكيف استطاع حزب العدالة والتنمية أن يروض مؤسسة عسكرية لم تكن تسمح بوجوده في السلطة؟ وكيف استمر حتى اليوم؟ وهل يأمن مكرها من انقلاب آخر؟

1- النجاح في الوصول والمحافظة عليه:
لا يمكن القول أن حزب العدالة والتنمية هو الحزب الأول ذو الهوية الإسلامية الذي نجح في الوصول للسلطة لتركيا، فقد سبقه كثيرون من الأحزاب التي حاولت مواجهة السيطرة العلمانية الأتاتوركية لتركيا، بدءًا من عدنان مندريس الذي تم إعدامه حتى نجم الدين أربكان، وكانت كل محاولة من هذه المحاولات تنتهي بانقلاب عسكري كما ذكرنا، إذن فالوصول للسلطة لم يكن هو ذاته سبب نجاح كافٍ للاستمرار في السلطة، أو الظن بأنه انتصار على المؤسسة العسكرية.

لكن ما يجعل تجربة حزب العدالة والتنمية في الوصول للحكم عام 2002م تختلف عن التجارب السابقة وتستمر حتى الآن عدّة عوامل، أهمها السياسة الداخلية القائمة على الاحتفاظ بالهوية العلمانية التركية بغير تطرف، فالدولة تفصل بين السياسة والدين، ولا تسمح للسياسة بالسيطرة على الدين أو العكس، فقد أكد الحزب على مواصلته مسار التحديث الذي بدأه أتاتورك، فضلاً عن سياسات الحزب التي استطاعت أن تقوم بالكثير من الإصلاحات في تركيا، والإدارة السياسية الناجحة في شؤون السياسة الداخلية والخارجية التي أنقذت البلاد من أزمة اقتصادية، وعززت من مكانتها الإقليمية والدولية، بذلك استطاع حزب العدالة والتنمية أن يتوج وصوله بسلسلة انتصارات متتالية.

ساهم في ذلك أيضًا المتغيرات العالمية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ورغبة المجتمع الدولي في تبلور نشاط تيار إسلامي وسطي مرن، قادر على ضبط معادلة القوى السياسية في الشرق الأوسط.

وجاءت مفاوضات أردوغان للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، فالتزم بمعايير كوبنهاجن من أجل الموافقة على بدء المفاوضات، ساهم ذلك في تعزيز موقفه في تركيا، لأن مطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، هو مطلب قومي أتاتوركي، ثم مطلب النخب العلمانية بمختلف أطيافها.

كل هذه العوامل، وسلسلة الإنجازات المستمرة ساهمت في تراجع نفوذ المؤسسة العسكرية إما بشكل مباشر أو غير مباشر، فبدعوى الإصلاحات وترسيخ القيم الديمقراطية وتعزيز دولة القانون، قام أردوغان بإجراء العديد من التعديلات الدستورية والقانونية التي استطاعت سحب مؤسسات الدولة كافة من تحت هيمنة الجيش، كما لم تستطع مؤسسة الجيش الوقوف أمام الإصلاحات أو المطالبة بالانضمام للاتحاد الأوروبي الذي يعرف أنها ستسحب كافة سلطاته السياسية والاقتصادية الخاصة.

2- التعديلات الدستورية للحد من الوصاية العسكرية:
يعتبر دستور 1982 الذي صاغه العسكر، هو أكثر الدساتير عسكرة للجمهورية التركية، وإخضاعًا لها تحت وصاية الرقابة العسكرية.

وللحد من هذه الوصاية، وإبعاد الجيش عن المؤسسة العسكرية كان لا بد من إعادة صياغة للدستور، والذي لم يكن بدوره أمرًا سهلاً.

في عام 2001، وقبل وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة بعام، جرت تعديلات دستورية شملت 37 مادة، كان من ضمنها المادة 118 الخاصة بمجلس الأمن الوطني، حيث أدرجت عضوية وزير العدل ونائبي رئيس الوزراء، وكان هو التعديل الوحيد فيما يخص مجلس الأمن الذي حد من النفوذ العسكري على عكس ما سبقه، وبه صارت المقاعد المدنية داخل المجلس أكثر من المقاعد العسكرية.
جاء ذلك نتيجة توصيات الاتحاد الأوروبي وتقارير الأداء التي قامت بنقد الدور الذي يلعبه الجيش في الحياة السياسية من خلال الأمن الوطني.

في عام 2003، ومع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم، قامت حكومة أردوغان بإصدار حزمًا قانونية جديدة لإعادة هيكلة المؤسسات، كان منها ما يخص المؤسسة العسكرية، والعلاقة بين العسكريين والمدنيين داخل الأمن الوطني، وهي ما استهدفت تقليص الوضعية القانونية والدستورية للجيش، وقد صادق عليها البرلمان التركي.
تم تعديل المادة 15، وإلغاء البند الخاص بوجوب تعيين الأمين العام لمجلس الأمن الوطني من بين أعضاء القوات المسلحة، وتعديل المادة الخامسية ليصبح انعقاد المجلس مرة كل شهرين بدلاً من مرة كل شهر، والمادة الرابعة التي كانت تكلف المجلس وأمانته بمهام المتابعة والتقييم لعناصر القوى الوطنية وأوضاع الدولة انطلاقًا من أن المجلس هو الحامي للنظام الدستوري، لتكون مهمته رسم وتطبيق سياسة الأمن الوطني، وألا يقوم بأي مهام إلا ما أسند له من مجلس الوزراء.
تم إلغاء بعض المواد التي تسمح للمجلس بالحصول على الوثائق السرية، وتعفي الكوادر العسكرية من الخضوع للرقابة المالية.

في 2004، كان هناك تعديلاً دستوريًّا يلغي عضوية الجنرال العسكري من داخل مجلس إدارة المجلس الأعلى للتعليم، وفي تعديل آخر أغليت عضوية الجنرال العسكري داخل الإذاعة والتليفزيون، ليصبح التعليم والإذاعة مؤسستين مدنيتين بلا أي رقابة عسكرية.

في 2007، بعد أن أعلن حزب العدالة والتنمية عن ترشيحه عبد الله غل لمنصب رئيس الجمهورية، قامت رئاسة الأركان بنشر بيان لها أبدت فيه تخوفها من مصير الجمهورية العلماني، فقام أردوغان بدعوة الجيش للالتزام بالمهام العسكرية وعدم التدخل في الشأن السياسي الداخلي، فرفعت رئاسة هيئة الأركان إنذارًا لها على الموقع، وهو ما وصف بمحاولة للانقلاب على حكومة أردوغان، لتقوم الحكومة فيما بعد بإصدار قرار يمنع المؤسسة العسكرية من الإدلاء بأي تصريحات تتعلق بالشأن السياسي إلا تحت وصاية مدنية.

شهدت تركيا أيضًا بعض التعديلات التي سمحت برفع دعاوى قضائية ضد الجنرالات القدامى ومحاكمات في قضايا الفساد، وإلغاء محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية.

3- إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية:
يعتبر المجلس العسكري اليوم في تركيا هيئة استشارية، تتكون من 14 عضوًا، منهم رئيس الوزراء المدني، ورئيس الدفاع المدني أيضًا، ولا يعتبر الجيش هو المسؤول عن تنفيذ القرارات الصادرة من المجلس، بل الحكومة.
أما مهامه فتدور حول مناقشة الموضوعات المتعلقة بالشأن العسكري، مثل الترقيات، والطرد، وبعضها قرارات قطعية غير قابلة للطعن.

تبحث حكومة العدالة والتنمية حاليًا خطوة إجراء تعديلات على بنية المجلس العسكري، ليزداد فيه الأعضاء المدنيون كما جرى مع مجلس الأمن الوطني، وتحويل تبعيته إلى رئاسة الوزراء بدلاً من وزراة الدفاع.

كما تبحث بعض التعديلات على نقل تبعية “قيادة الأمن العام” التي تقوم بالحفاظ على الأمن والاستقرار في المناطق البعيدة التي لا تخضع للسطات المدنية في المحافظات، من رئاسة الأركان حاليًا إلى وزارة الداخلية، لتتحول تدريجيًّا إلى مؤسسة مدنية.

وفي مشاريع التعديلات الدستورية القادمة، يتم بحث إلغاء قانون الخدمة العسكرية الذي ينص على أن “وظيفـة القوات المسـلحـة هي حمايـة الوطن ومبادئ الجمهوريـة التركيـة”، لتكون مهمة القوات المسحلة فقط حماية الوطن وحدوده.

أيضًا، تدور أغلب اقتراحات التعديلات الدستورية الحالية حول إنهاء دور الجيش من الحياة السياسية، وتعديل الوضعية الدستورية والقانونية للمؤسسة العسكرية، كإلغاء المحاكم العسكرية الإدارية العليا، وإغلاق المدارس الثانوية العسكرية، وإخضاع ميزانية القوات المسلحة لإشراف الجهاز المركزي للمحاسبات.

4- محاكمات واعتقالات:
على أثر التعديلات الدستورية التي سمحت بمحاكمة الجنرالات العسكرية، تعرض عدد كبير من الضباط – من بينهم جنرالات وأميرالات في الخدمة وعدد من القادة السابقين في سلاح البحرية والجو التركي- للاعتقال، بتهمة التخطيط لانقلاب على الحكومة، ليتم إطلاق سراح القادة السابقين فيما بعد، وهو ما جعل البعض يرى أن هذه الخطوة لم تكن سوى محاولة لتخويف القيادات العسكرية من انقلاب عسكري جديد.

جاء ذلك كجزء من قضية أرغينيكون الشهيرة في تركيا، والتي عرفت بتعقيدها وعدم الوصول لنتائج فيها منذ ثلاثة أعوام، ، يذكر أن ذلك كان بمساعدة حركة الخدمة بقيادة فتح الله كولن، نظرًا للنفوذ الكبير للحركة داخل مؤسسة القضاء، وقبل الخلاف الأخير مع أردوغان.

ساهم التعديل الدستوري الخاص بالمحاكمات أيضًا في فتح الطريق لمحاكمة قادة الانقلاب العسكري عام 1980، وصدور قرارات ضد عدد كبير من الجنرالات والضباط بالسجن.

على أثر هذه المحاكمات، قام عدد كبير من قادة المؤسسة العسكرية بتقديم استقالات جماعية عام 2011 للضغط على أردوغان، وللاعتراض على هذه القرارات والاعتقالات في حق الجيش.

ويرى بعض المحللين أن من أهم أسباب هذا العجز الواضح لقيادات الجيش أمام حكومة أردوغان هو تراجع علاقة المؤسسة العسكرية مع الولايات المتحدة، التي أصبحت تفضل حكومة العدالة.

5- تحت الرقابة والعودة إلى الثكنات:
صارت المؤسسة العسكرية تحت الرقابة إما بصورة مباشرة من خلال الرقابة الكاملة من ديوان المحاسبة، أو الترصد تجاه أي محاولة للانقلاب.

في المقابل لم يعد الجيش يعلق بأي تصريحات على الأزمات والاضطرابات السياسية، ففي الأزمات الأخيرة التي شهدتها تركيا، سواء أحداث التقسيم أو الاحتجاجات ضد أردوغان، أو أزمة الفساد الأخيرة، أو الأزمة مع الكيان الموازي – حركة فتح الله كولن-، كان موقف الجيش هو “الحياد”.

وأمام بعض التصريحات أو التوقعات بانقلاب الجيش على حكومة أردوغان، كانت تصريحات الجيش التي تؤكد بأنه لن ينقلب ضد حكومة مدنية انتخبت ثلاث مرات متوالية بشكل ديمقراطي.
سياسة | المصدر: ساسة بوست | تاريخ النشر : الأحد 31 اغسطس 2014
أحدث الأخبار (سياسة)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com