
مع مرور أكثر من عقد على توقف مشروعات الإسكان الحكومية في ليبيا، تتفاقم أزمة السكن في العاصمة طرابلس، حيث يشهد السوق توسعًا غير منضبط للبناء العشوائي، في مشهد يعكس أثر توقف خطط الدولة وغياب التنظيم الحضري.
في ظل هذه الأزمة، حاول القطاع الخاص التدخل لتوفير مساكن بديلة تلبي جزءًا من الطلب المتزايد، إلا أن هذه الجهود غالبًا ما استهدفت الفئات ذات القدرة الشرائية المتوسطة والعالية، تاركة الشرائح الفقيرة تواجه صعوبة في الحصول على مسكن مناسب.
ويشير خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن استمرار التعثر في المشروعات الحكومية يزيد الضغط على القطاع الخاص، الذي يسعى لتوفير وحدات سكنية محدودة، غالبًا بأسعار مرتفعة، ما يضع شريحة واسعة من السكان في مواجهة مباشرة مع نقص المساكن المناسبة وعدم القدرة على تلبية احتياجاتهم الأساسية.
وفي هذا الإطار، يرى المقاوِلون في السوق العقاري أن القطاع الخاص، رغم جهوده، يواجه تحديات كبيرة، من بينها ارتفاع أسعار الأراضي والمواد الإنشائية، فضلاً عن تعقيدات قانونية وإدارية تعيق إتمام مشاريع سكنية تلبي الطلب الفعلي للسكان.
في شارع الخلاطات بطريق المطار بالعاصمة طرابلس، يقول عباس القبائلي، وهو أحد سكان المنطقة، لـ"العربي الجديد": "المنطقة تضم عمارات سكنية بعلو ثمانية طوابق، إلى جانب أخرى مجاورة بثلاثة وأربعة طوابق، لكن البناء العشوائي مستمر بشكل يومي، وكأن القانون والتخطيط الحضري غائبان تمامًا".
ويشير القبائلي إلى أن غياب الرقابة على تراخيص البناء أدى إلى اختلاف واضح في ارتفاع العمارات وتصميمها، ما يجعل الحي يبدو فوضويًا ويزيد صعوبة توفير الخدمات الأساسية للسكان.
ويضيف رياض الجيلاني، وهو أحد سكان منطقة جنوب طرابلس: "المشكلة ليست فقط في العمارات التي تجاوزت أسعارها 200 ألف دينار (الدولار = 5.5 دنانير)، بل في غياب المساكن المتاحة للناس. الحياة في المدينة أصبحت صعبة، خاصة مع ندرة الخدمات في المناطق النائية، حيث لا توجد مرافق أو بنية تحتية".
ويؤكد الجيلاني، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن ارتفاع أسعار المساكن في الأحياء المكتملة يضع الأسر محدودة الدخل أمام خيار الهجرة إلى أطراف المدينة، ما يزيد الضغط على المناطق الجديدة ويؤدي إلى انتشار المزيد من البناء العشوائي.
وفي سياق متصل، يشير وسطاء في سوق العقارات إلى أن القطاع الخاص حاول منذ سنوات توفير وحدات سكنية بديلة وسط تعطل المشروعات الحكومية، إلا أن الأسعار المرتفعة لم تكن في متناول معظم المواطنين.
يقول الوسيط العقاري في طريق المطار محمد الأزهري لـ"العربي الجديد": القطاع الخاص يبني، لكن الفجوة كبيرة بين العرض والطلب، خصوصًا أن الأراضي والمستلزمات الإنشائية غالية، إضافة إلى البيروقراطية التي تعرقل إنجاز المشاريع في الوقت المناسب.
من جهة أخرى، يقدم المختص في سوق العقارات من مدينة سبها، جنوب ليبيا، عبد الرزاق الحسناوي، صورة مختلفة عن الوضع خارج العاصمة، حيث يقول لـ"العربي الجديد": "الطلب على المساكن أقل مقارنة بطرابلس، لكن المشكلات تتعلق بندرة الأراضي والمرافق الأساسية، ما يرفع كلفة البناء. كما أن مشاريع الإسكان الحكومية شبه متوقفة، ما يجعل القطاع الخاص يتحرك بحذر شديد لتفادي الخسائر".
ويرى المحلل الاقتصادي عبد الله الحضيري أن الحل يتطلب إعادة تنظيم السوق العقاري ووضع خطة متكاملة للإسكان، تشمل رقابة صارمة على البناء العشوائي.
تجدر الإشارة إلى أنّ معظم الشركات الأجنبية كانت قد توقفت عن العمل في ليبيا منذ اندلاع ثورة فبراير/ شباط 2011، وساهم التوتر السياسي القائم في استمرار تعطّلها، بعدما تكبّدت خسائر فادحة خلال السنوات الماضية. وتُقدّر وزارة التخطيط في تقريرها لعام 2020 العجز المتراكم في الوحدات السكنية بنحو نصف مليون وحدة سكنية.
وقال الخبير العمراني علي قاضي إن حل أزمة السكن في ليبيا لا يمكن أن يكون جزئيًا، مشددًا على ضرورة وضع استراتيجية وطنية متكاملة تشمل دعم وتمويل القطاع الخاص لتوفير مساكن بأسعار مناسبة، وتسهيل إجراءات التراخيص والبناء، وتخصيص أراضٍ للبناء المنظم، بالإضافة إلى فرض رقابة صارمة على البناء العشوائي.
وأوضح قاضي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "التنسيق بين الدولة والقطاع الخاص ضرورة حتمية لضمان أن التمويل والمشاريع تصل فعليًا إلى المواطنين المحتاجين، وليس فقط للمستثمرين أو الفئات الأعلى دخلًا".
وقال مفتاح الرحيبي، وهو صاحب شركة عقارية، إن المشكلة الأساسية تكمن في أن المخططات العمرانية الحكومية لا تزال متوقفة، مضيفًا في حديث لـ"العربي الجديد": "نحن ما زلنا في الجيل الثالث من المشاريع السكنية التي لم تُستكمل منذ عام 2011، إضافة إلى التوسع العمراني في الأراضي الزراعية"
وأشار الرحيبي إلى أن "البناء العشوائي أصبح واقعًا في المناطق المجاورة، بينما نقوم نحن ببناء أحياء سكنية يتم بيعها للمواطنين بأسعار تراوح بين 250 ألفا و400 ألف دينار، في ظل انخفاض القوة الشرائية للدينار. وللتوضيح، فإن الأسعار نفسها كانت حوالي 75 ألف دينار في عام 2011، والآن ارتفعت إلى أكثر من 200 ألف دينار".
قال وزير الإسكان بحكومة الوحدة الوطنية أبوبكر عويدات، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، إن نحو 255 ألف وحدة سكنية توقفت منذ 2011، إضافة إلى تضرر وحدات أخرى خلال الفترة من 2014 إلى 2019، نتيجة النزاعات والتحديات المالية والإدارية التي واجهت الوزارة خلال السنوات الماضية. وأوضح الوزير أن نسب الإنجاز في المشاريع القائمة تراوح بين 10% و60% فقط، ما يعكس تعثرًا كبيرًا في جهود الدولة لتوفير السكن للمواطنين، ويدل على أن الحلول الجزئية لم تنجح في مواجهة حجم الأزمة الحقيقية.
وأشار عويدات إلى أن مصرف ليبيا المركزي أطلق مبادرة لتخصيص خمسة مليارات دينار سنويًا لاستكمال المشاريع السكنية على مدار خمس سنوات، في محاولة لمعالجة جزء من الأزمة، مؤكدًا أن التمويل يمثل خطوة أولى نحو استعادة النشاط في القطاع.
ومع ذلك، يرى المحلل في التمويل والمصارف جمعة المنتصر بالله أن التمويل وحده لا يكفي، إذ يحتاج الملف إلى إدارة فعالة للمشروعات، وخطط تنظيمية واضحة، ومتابعة دقيقة لضمان التزام المقاولين والمطورين بمواصفات التنفيذ، وتجنب تكرار الأخطاء السابقة التي أدت إلى توقف المشاريع واستمرار أزمة السكن.