
يستعجل جيش الاحتلال الإسرائيلي الزمن من أجل إخلاء مدينة غزة وتدميرها، شمالي قطاع غزة، عبر عمليات القصف اليومية التي تطاول المدينة، أو عبر أوامر الإخلاء المتنوعة التي يصدرها للسكان، سواء من خلال الإعلانات عبر شبكات الإنترنت، أو من خلال المنشورات التي يُلقيها عبر الطائرات المسيّرة والاتصالات الهاتفية التي يتلقاها الغزّيون.
ويومياً، يلقي الاحتلال البيانات والخرائط على السكان، التي تدعوهم إلى النزوح جنوباً، وترك المدينة، في ظل عزم إسرائيل على احتلالها ضمن ما يعرف بعملية "عربات جدعون 2" التي تستهدف السيطرة على المدينة والقضاء على حركة حماس.
ويُطبِق جيش الاحتلال الإسرائيلي نارياً على المدينة من خلال استهداف الأحياء المختلفة فيها، حيث شهدت الأحياء الغربية منها خلال الأيام الماضية عمليات استهداف مركزة تمثلت بتدمير الأبراج والعمارات السكنية. وبحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، يوم الجمعة الماضي، فإن عدد الفلسطينيين القاطنين في مدينة غزة يبلغ 1.3 مليون نسمة، فيما يحاول جيش الاحتلال إجبارهم على النزوح إلى منطقة المواصي في رفح وخانيونس جنوبي القطاع، التي تضم 800 ألف نسمة، يفتقرون إلى مقومات الحياة الأساسية.
وبحسب هذه البيانات، فقد دمّر الاحتلال في مدينة غزة أكثر من 1600 برج وبناية سكنية مدنية متعددة الطوابق تدميراً كاملاً، وأكثر من ألفي برج وبناية سكنية دمّرها تدميراً بليغاً، إلى جانب تدميره أكثر من 13 ألف خيمة تؤوي النازحين. ووفقاً لهذه البيانات، فإن الاحتلال منذ مطلع سبتمبر/أيلول الحالي وحده، أقدم على نسف 70 برجاً وبناية سكنية وتدميرها بشكل كامل، وتدمير 120 برجاً وبناية سكنية تدميراً بالغاً، إضافة إلى أكثر من 3 آلاف و500 خيمة.
وتشير هذه البيانات حديثة الظهور إلى أن هذه الأبراج والعمارات السكنية كانت تضم أكثر من 10 آلاف وحدة سكنية يقطنها ما يزيد على 50 ألف نسمة، فيما كانت الخيام التي استهدفها العدوان الإسرائيلي تؤوي أكثر من 52 ألف نازح.
ويركز الاحتلال الإسرائيلي في عمليات التدمير التي يقوم بها على ضرب المنشآت المدنية بهدف تحريك السكان وإجبارهم على النزوح نحو الوسط والجنوب، وخصوصاً أن الفترات الأولى من العملية العسكرية لم تشهد عمليات نزوح كبيرة.
وخلال الأيام الأخيرة تصاعدت وتيرة النزوح بشكل أكبر قليلاً في ظلّ الكثافة النارية التي يستخدمها الاحتلال الإسرائيلي ضد مدينة غزة وحالة الإطباق الناري، وخصوصاً على أحياء ذات كثافة سكانية مثل مخيم الشاطئ وحيّ الشيخ رضوان والرمال وتل الهوا. في المقابل، فإن الكثافة السكانية في مناطق وسط القطاع وجنوبه، تجعل السكان لا يحبذون الانتقال إليها، في ظل التكدس الكبير وعدم وجود أراضٍ فارغة، فضلاً عن غياب وسائل النقل إلى تلك المناطق.
واقع صعب في مدينة غزة
في الأثناء، قال الفلسطيني أحمد المعصوابي إن عمليات الإجلاء والنزوح من مدينة غزة باتت أصعب في ظل عدم وجود مساحات أو أراضٍ فارغة واشتداد القصف الإسرائيلي يومياً وعدم وجود أي مكان آمن. وأضاف المعصوابي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن السؤال الذي يتردد في عقل الناس اليوم هو "وين نروح؟"، حيث لا يوجد أي مكان، والجميع ينزح نحو المجهول، مشيراً إلى أنه سعى للنزوح مع عائلته مرتين، ثم اضطر إلى العودة من جديد إلى منطقته غرب غزة، بسبب عدم وجود أي مكان. وأشار إلى أن الاحتلال يلقي يومياً المناشير والأوراق التي تدعو إلى النزوح جنوباً نحو منطقة المواصي المكتظة أصلاً بالنازحين، متسائلاً: "وين نروح؟ فش أي مكان فاضي يستوعبنا في تلك المنطقة".
أما الفلسطيني فؤاد سلامة، فاختار أن ينزح مع عائلته من مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين بعد أن اشتد القصف الإسرائيلي على المخيم خلال اليومين الماضيين نحو المنطقة الوسطى أملاً في تفادي حدة الانفجارات والقصف. وقال سلامة لـ"العربي الجديد"، إن أحد دوافع نزوحه إلى الوسط، كان والدته المريضة وأفراد عائلته، وذلك في ظل صعوبة الانتظار تحت القصف والتهديد المتواصل على مدار الساعة، وخصوصاً أن الاحتلال كثّف من عمليات القصف والتفجير.
كارثة إنسانية
من جهته، حذّر المدير التنفيذي لشبكة المنظمات الأهلية في غزة، أمجد الشوا، من تفاقم الكارثة الإنسانية في مدينة غزة التي وصفها بأنها "تتعرض لعملية إبادة عمرانية إلى جانب الإبادة البشرية" نتيجة للعملية العسكرية الإسرائيلية. وقال الشوا في حديث لـ"العربي الجديد"، إن عشرات الآلاف من الأطفال يعانون من سوء التغذية، وقد تشتتوا في مناطق مختلفة، ما أفقدهم فرص الحصول على الخدمات الأساسية، الأمر الذي يضعف قدرة المنظمات الإنسانية على الاستجابة لاحتياجات المرضى والحالات الطارئة.
وأشار المدير التنفيذي لشبكة المنظمات الأهلية إلى أن ثلاثة أسابيع مرّت منذ إعلان الأمم المتحدة غزة منطقة تشهد المجاعة، "لكن الوضع يزداد تدهوراً مع ارتفاع أعداد الضحايا والمصابين بسوء التغذية، من دون أي مؤشرات على تحسن". وبحسب تقديراته، كان عدد سكان مدينة غزة يقدَّر بمليون ومئة ألف نسمة، غادر منهم حتى الآن نحو 10%، أي ما يزيد على مئة ألف شخص، موضحاً أن كثيراً من النازحين يفترشون الطرقات والساحات العامة من دون خيام أو مقومات أساسية للحياة.
وطالب الشوا المجتمع الدولي بالتحرك الفوري والضغط على إسرائيل لوقف عمليتها العسكرية وحماية المدنيين الفلسطينيين، محذراً من أن الاحتلال يسعى إلى تهجير السكان من خلال تفريغ مدينة غزة، التي تُعد مركز قطاع غزة. ووصف التصعيد الإسرائيلي الحالي بأنه "الأخطر والأكثر دموية"، مشيراً إلى أن الأوضاع الصحية والإنسانية وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة، مع نقص حاد في المياه والدواء والمستلزمات الطبية، وانتشار الأوبئة والأمراض، إلى جانب تدمير ممنهج للمناطق التي يسيطر عليها الاحتلال.
وكشف الشوا أن عدد الخيام التي دخلت إلى غزة لم يتجاوز 1443 خيمة، في وقت لا توجد فيه أي مناطق آمنة أو ممرات إنسانية، حتى منطقة المواصي التي توصف بأنها "منطقة إنسانية"، إذ تتعرض للاستهداف، وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
الإجبار على المغادرة
من جهته، أكد المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، أن "الواقع في مدينة غزة صعب وكارثي بكل المقاييس"، مشيراً إلى أن القصف الإسرائيلي المتواصل منذ بداية العملية العسكرية خلّف دماراً واسعاً وأدى إلى استهداف الأبراج والبنايات وإجبار الأهالي على مغادرة منازلهم تحت القصف. وأضاف بصل لـ"العربي الجديد"، أن الاحتلال يتعمد استهداف مبانٍ محاطة بخيام النازحين، ما يفاقم من معاناة المدنيين، لافتاً إلى أن عمليات النزوح نحو جنوب القطاع تقدر حتى الآن بما يراوح بين 50 و60 ألف مواطن، في ظل غياب مقومات الحياة الأساسية.
وأوضح المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني في غزة، أن سياسة القصف المكثف لها انعكاسات خطيرة، إذ إن بناية واحدة كانت تؤوي ألف مواطن أصبحت أثراً بعد عين، ما دفع هؤلاء إلى المجهول، فضلاً عن خروج سكان المباني المجاورة نتيجة التدمير الواسع.
وأشار بصل إلى أن نحو مليون مواطن ما زالوا محاصرين داخل مدينة غزة، "مهددون بالموت، وبالقتل والنزوح"، مؤكداً أن هذا الواقع يتطلب وقفة جادة من المجتمع الدولي، ومن مؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الأممية، من أجل وقف ما يجري وحماية المدنيين المحاصرين داخل قطاع غزة.