Akhbar Alsabah اخبار الصباح

جولة تخريب في متاحف أوروبا

متاحف أوروبا نجح عدد من ناشطي البيئة، خلال الفترة الأخيرة، في لفت الانتباه إليهم بعد أن تصدّرت صورهم نشرات الأخبار ومواقع الصحف، إلى جوار أعمال فنية مهمة. أقدم هؤلاء الناشطين على إلصاق أيديهم بأطُر هذه الأعمال، من أجل لفت الانتباه إلى قضية المناخ.

لم يقتصر الأمر في هذه الهجمات على إلصاق الأيدي فقط، إذ أقدم بعض هؤلاء الناشطين والناشطات على إلقاء عبوات من الحساء على الحاجز الزجاجي لبعض الأعمال. وهذا ما حصل أخيراً في لندن؛ إذ اعتدت ناشطتان على لوحة "عبّاد الشمس" للفنان الهولندي، فان غوخ، التي يقدر سعرها بـ 84 مليون دولار. تذرّعت الناشطتان حين أقدمتا على ذلك، بأنّ المناخ والبيئة والحياة، "أهمّ من الفن". سرعان ما هرعت الشرطة إلى المتحف، وألقت القبض على الناشطتين بتهم الإتلاف الجنائي والتعدي على الممتلكات. وقد تعددت هذه الهجمات الاحتجاجية على نحو ملحوظ، وتوزعت على عدد من المتاحف والمؤسسات الفنية في عواصم أوروبا، من لندن وباريس وروما إلى لاهاي ومدريد وبرلين، وأستراليا؛ إذ شهدت هذه الأخيرة عملاً احتجاجياً مشابهاً لما حصل في لندن؛ فألصق ناشطان مناخيان يديهما بالغراء على الحماية الزجاجية للوحة بابلو بيكاسو "مجزرة في كوريا" المعروضة في متحف في مدينة ملبورن الأسترالية، من دون إلحاق أي ضرر باللوحة.

خلافاً لدافع الاحتجاج، فقد شهد القرن العشرون العديد من الهجمات المماثلة، بدوافع مختلفة لأشخاص مضطربين، أو بدافع العبث والرغبة في الشهرة، أو بدوافع غامضة أحياناً. وكان لكثير من هذه الهجمات عواقب وخيمة على تلك الأعمال المستهدفة. هذه الهجمات الأخيرة التي تعرضت لها تلك الأعمال، لم تكن غريبة أو نادرة، فهي حلقة أخف وطأة في سلسلة طويلة من الهجمات العنيفة التي استهدفت الأعمال الفنية الشهيرة. بين أبرز هذه الهجمات، على سبيل المثال تحطيم، تمثال بيتا الشهير لمايكل أنجلو في كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان، وتمزيق لوحة رمبرانت في هولندا، وغيرها من الهجمات الأخرى التي تسببت في إتلاف العشرات من الأعمال الفنية
كانت أغلب هذه الهجمات التي تعرضت إليها الأعمال الفنية، من قبل أشخاص أقدموا على فعلتهم هذه لمرة واحدة فقط، لكننا إذا أمعنّا البحث جيداً، سنكتشف أن بين هؤلاء المهاجمين، كان هناك رجل واحد ارتكب فعل تخريب لوحات مرات عديدة. هذا الرجل هو الألماني هانز يواكيم بولمان (Hans-Joachim Bohlmann / 1937 - 2009)، الذي ألحق الضرر بالعشرات من الأعمال الفنية التي لا تقدر بثمن. فقد استطاع بولمان وحده أن يبث الرعب بين أروقة المتاحف في أنحاء أوروبا على مدى أربعين عاماً متواصلة.. ما حكايته؟
وُلد هانز يواكيم بولمان عام 1937 لعائلة فقيرة، وعانى في طفولته من قسوة والديه. تزوج بولمان في سن الثلاثين، غير أن زواجه هذا انتهى نهاية أليمة، بعد أن لقيت زوجته حتفها على إثر سقوطها من شرفة البيت. كان هذا الحادث مصدر تحول كبير في حياة بولمان، والذي كان مصاباً بأعراض الاكتئاب، وساهم هذا الحادث في تفاقم حالته الصحية.

في لحظة جنونية، قرر بولمان أن يوجه سخطه على الحياة إلى أحد الأعمال الفنية، فاتجه إلى متحف مدينة هامبورغ، ووقف أمام أول عمل فني قابله، وهو لوحة السمكة الذهبية للرسام السويسري البارز بول كلي. أخرج بولمان حقنة صغيرة مخبأة في جيبه، كان قد ملأها بسائل حمض الكبريتيك، ووجهها نحو اللوحة ثم فر من المكان، قبل أن يُكتشف أمره. لم يكتف الرجل بهذا الأمر، فخلال الأسابيع والأشهر اللاحقة، كانت الهجمات على الأعمال الفنية خبراً رئيسياً في كافة نشرات الأخبار الألمانية والأوروبية. واصل الرجل عمله بإصرار، متنقلاً من متحف لآخر. وطوال ستة أشهر كان قد شوه العشرات من اللوحات المتحفية. بين هذه الأعمال الفنية التي تعرضت لتلك الهجمات، لوحات مهمة لفنانين بارزين من فناني عصر النهضة، من لوكاس كراناش وبول روبنز إلى رمبرانت، الذي شوه له عملين هامين كانا معروضين في متحف مدينة كاسل.
بعد هذه المجموعة من الهجمات، أُلقي القبض على بولمان، حين اشتبه به أحد حراس المتاحف، وحكم عليه بالسجن لخمس سنوات. غير أن هذه العقوبة لم تكن رادعة له على ما يبدو، ففور خروجه من السجن، استعاد الرجل نشاطه من جديد. ولأنه كان ممنوعاً من دخول كافة المتاحف، فقد صوب غضبه هذه المرة على أشياء غير فنية، من تخريب الشاحنات المتوقفة على الطرق، إلى جانب قطع الأشجار وحرق المباني الأثرية، وتسميم الحيوانات والطيور، فحكم عليه بالسجن مرة أخرى لمدة ثلاث سنوات.

بعد قضائه فترة العقوبة الثانية استطاع، بولمان التسلل إلى متحف مدينة ميونخ ليشوه ثلاث لوحات لفنان عصر النهضة البارز ألبريخت دورر. حين ألقي القبض عليه هذه المرة، أودع في أحد المصحات النفسية، حيث قضى أكثر من سبعة عشر عاماً متواصلة.
المُفارقة، هنا، أنه أثناء وجوده في المصح النفسي، انضم بولمان إلى أحد الفصول الخاصة للعلاج بالفن. ويبدو أنه أحب هذا النوع من العلاج، فقد بلغ مجموع ما رسمه خلال هذه الفترة أكثر من 1500 لوحة بالألوان المائية. وبعد أن أظهر علامات على شفائه من الاضطراب، سمح له الأطباء بالخروج، على أن يكون تحت المراقبة المستمرة.
بعد شهور من مغادرته المصح النفسي، ظن الجميع أنه قد تعافى تماماً، ولكن يبدو أن الرجل كان يشعر أنه في حاجة إلى القيام بعمل أخير. في عام 2006، استطاع بولمان بطريقة ما الهرب من المراقبة المفروضة عليه، وعبر الحدود صوب هولندا، متوجهاً مباشرة إلى متحف ريجيكس في أمستردام.
لم يستعمل بولمان هذه المرة سائل حمض الكبريتيك كالمعتاد في معظم هجماته، إذ استبدله بسائل آخر قابل للاشتعال. في المتحف توقف أمام لوحة كبيرة لفنان عصر النهضة الهولندي فان دير هيلست، ورشها بالسائل ثم أشعل فيها النيران وسلم نفسه على الفور.
كان هذا هو الهجوم الأخير لهانز يواكيم بولمان، فبعد خروجه من السجن بعام واحد فقط، فارق الحياة متأثراً بإصابته بمرض السرطان. مات بولمان، غير أنه سيظل مرتبطاً بأحد أكثر الهجمات غرابة في تاريخ الفن، كما أن مجرد ذكر اسمه حتى اليوم يصيب القائمين على المتاحف في أوروبا بالهلع.
سياسة | المصدر: العربي الجديد | تاريخ النشر : السبت 12 نوفمبر 2022
أحدث الأخبار (سياسة)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com