حالة استنفار قصوى نتيجة حالة مماثلة من القلق، فرضتها العصابة المتحكمة بالجيش المصري على كافة أجهزته الأمنية المخابرات العامة والحربية، بتحركات وندوات سعيا منها لـ"احتواء" فيديوهات الفساد التي تعتبر "ويكيليكس" بطله ليس دوليان أسانج بل المقاول والفنان المصري محمد علي.
وتدور التأويلات المقترحة للاحتواء في وسط مواقع التواصل الاجتماعي على أن النظام مبدئيا يتعامل مع مثل هذه الحالات كما تعامل من قبل مع رافضي القتل من الضباط في الحرس الجمهوري وفي رابعة حيث قتلتهم عصابة الانقلاب في أماكنهم وأدعت قتلهم بيد الثوار.
إذن هي التصفية واعتبار أن فيديوهات محمد علي زوبعة في فنجان وعادت الأمور لقواعدها سالمة.
خوف تململ الجيش
غير أن ما كشف عن هذه الحالة فعليا، مصادر قالت العربي الجديد إنه تمّ تنظيم عددٍ من الندوات التثقيفية في الوحدات العسكرية لتوضيح ما يسمى بمخاطر "حروب الجيل الرابع والشائعات ودورها في تفتيت الأوطان"، واعتبار أن ما كشفه محمد علي ويلمسه من يتعامل مع نفس الواقع من الضباط والأفراد (الجنود).
وكشف المصادر تحذير قيادة الجيش الضباط والأفراد من متابعة فيديوهات المقاول محمد علي، التي يتهم فيها السيسي وعددًا من قيادات القطاعات الاقتصادية بالمؤسسة العسكرية، بالفساد المالي واستغلال نفوذها في تحقيق أرباح تقدر بالمليارات.
وتأتي التحركات النشطة ليس فقط بالندوات بل إلى داخل المعسكرات والوحدات، لترهيب إظهار أي ردود فعل على فساد الجيش والسيسي، في أعقاب ملامستهم قلق شديد لم تشهدها المؤسسة العسكرية ودوائر النظام منذ 30 يونيو 2013.
صراع داخلي
وأوضحت المصادر أن صراعات كبيرة بين عدد من قادة ورؤساء قطاعات داخل القوات المسلحة، بعضها مرتبط بالنشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، موضحة أن السنوات العشر الماضية شهدت ظهور عددٍ من الكيانات والشركات على الساحة في عددٍ من القطاعات الاقتصادية، لافتة الى أن تلك الشركات مملوكة على الورق لأشخاص مجهولين وليست لهم سابقة أعمال، مضيفة أن تلك الشركات تم إسناد أعمال لها من المؤسسة العسكرية بقطاعاتها الاقتصادية المختلفة، بالأمر المباشر.
وأضافت المصادر أن تلك الشركات بعضها مملوك من الباطن لقيادات عسكرية كبيرة وبعلمٍ من قيادة المؤسسة العسكرية، والأخرى مملوكة بشكل جزئي، من خلال تصدير شخصيات من أمثال رجل الأعمال محمد علي، على الورق.
وتلاحق القوات المسلحة اتهامات بالسيطرة على الحياة الاقتصادية المصرية عبْر منافستها للمستثمرين والقطاع الخاص. وفي وقت سابق، حذرت بعثة صندوق النقد الخاصة بمراجعة الإجراءات المتعلقة بقرض من الصندوق للحكومة المصرية بقية 12 مليار دولار من تغوّل القوات المسلحة وسيطرتها على الاقتصاد.
وذكر المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة، العقيد تامر الرفاعي، في تصريحات حديثة، أن المؤسسة العسكرية تشرف على 2300 مشروع يعمل بها نحو خمسة ملايين من المدنيين والمهندسين والعمال.
فك التكتلات
وتسعى الاستخبارات إلى عملية تفتيش الضمائر خشية وجود أطراف معارضة من أكثر من اتجاه وتشكيل تكتل من شأنه تحريك المياه الراكدة في الشارع من المحتمل أن يعاونهم أفراد من الجيش.
وحددت المصادر للصحيفة "حالة تتبع ومراقبة دقيقة لعدد من قيادات بعض الأجهزة السيادية والنشطاء، ومن يتم توصيفهم بالعناصر الإثارية" لمعرفة من يقف خلف التحركات الأخيرة، وفي مقدمها تسريبات محمد علي لفساد النظام.
وربط المحللون بين ثلاثة أمور تحركات تفتيش الضمائر وفتح نوافذ الإعلام ورسائل السجون الأخيرة، بعدما أكدت المصادر أنه يتم تحريكها جميعًا من داخل أروقة الأجهزة الأمنية، وبالتحديد جهاز الاستخبارات العامة، للضغط على جماعة الإخوان وتشتيتها، باعتبارها تملك حركة الشارع رغم الضربات المتلاحقة والقاصمة، مع بث حالة من اليأس في نفوس أعضائها في السجون والخارج من جدوى أي فعل معارض أو مقاوم".
"المعارضة" و25 يناير
وفي إطار قلقها، قامت المخابرات بجولة خارج إطار الجيش والسجون إلى مقار المعارضة وأماكن التجمعات وتواصل يومي مع أفراد محسوبين على "المعارضة"، وأغلبهم من مؤيدي 30 يونيو، لإقناعهم بأداء دور في مهاجمة رجل الأعمال محمد علي للحد من تأثير خطابه، الذي أخذ في تشكيل موجة غضب لدى الأوساط المختلفة.
وأشارت المصادر إلى أن من بين تلك الأسماء التي تواصل معها الأمن الوطني المحامي طارق العوضي، الذي أعلن وبشكل مفاجئ، تصدّيه لما سمّاه "الفاسد" محمد علي، قائلاً إنه سيرد عليه بالمستندات، على الرغم من إعلانه في وقت سابق عدم معرفته الشخصية به أو التعامل معه في أي مرحلة سابقة.
غير أن المصادر ألمحت إلى دور ممثل يقوم به وائل غنيم، بعدما أوضحت أن جولات لأمن الوطني واتصالاته بلغت عدد من الشخصيات المحسوبة على ثورة 25 يناير، في محاولة لإقناعهم بمهاجمة محمد علي، للنزول بسقف مصداقيته لدى الشارع العادي بدعوى فساده ومشاركته في الفساد على مدار 15 عاماً، فيما يحاول في الوقت الراهن تصدر المشهد وأداء دور المناضل.
ومن ذلك اعتبر المراقبون أن السبب الأساسي في مداهمة منزل رئيس تحرير صحيفة "المشهد" الأسبوعية مجدي شندي واعتقال نجله عمر، هو تراخي الأخير في الالتزام بتعليمات أمنية خاصة بعدم التعاطي على مستوى النشر مع فيديوهات محمد علي التي باتت بمثابة "الكابوس" لأجهزة النظام.
وقالت المصادر إن كافة الوساطات التي قام بها أصدقاء شندي من أصحاب العلاقات الواسعة داخل أجهزة النظام، مثل نقيب الصحافيين، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات ضياء رشوان، وكذلك رئيس مجلس إدارة مؤسسة "أخبار اليوم" ياسر رزق، تم رفضها بدعوى أن شندي تراخى في الالتزام بتعليمات عليا بعدم تناول التسجيلات، بخلاف إصراره على تجاوز كافة الخطوط الحمراء المحددة بشأن المواد المنشورة في الصحيفة في ذلك التوقيت.
خارج الصندوق
الخبير الإعلامي الفلسطيني ياسر أبو مويلك طرح حلاًّ للقضية وقال: "كيف كنت سأحلّ قضية "محمد علي" لو كنت الجيش؟.
وقال إن محمد علي "لم يكن معارضاً لي في أي لحظة من لحظاته، و"لحم كتافه من خيري"، أو من الفساد الذي يقول إنه يكشفه، مثلاً. وبالتالي إلصاق تهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين به، أو جعله جاسوسًا لأي كيان يعتبره الشعب معاديًا، ستكون تثبيتًا لروايته ولما توقعه في أول فيديو من أن الرد سيكون اعتباره "إخوان".
واعتبر ياسر أن "عدم الرد بشكل رسمي على اتهامات محمد علي، وهو صاحب إحدى أكبر شركات المقاولات في مصر ومتعهد معتمد لدى عدد من الوزارات ومؤسسة الرئاسة، خطير جدًّا قد يدفع اليأس محمد إلى إفشاء المزيد من الأسرار الحساسة التي جمعها على مدى 15 عامًا من التواصل الوثيق مع قيادات البلاد، والتسبب بأضرار تفوق الأضرار المالية. لذلك يجب أن يخرج بيان رسمي "يهدئ النفوس" ويبعث بتطمينات لمحمد أن يعود وله الأمان ولعائلته السلامة".
وأردف الحل هو أن مواجهة المشكلة بشكل مباشر، فتصدر أوامر للجهاز المركزي للمحاسبات بفتح تحقيق في المشاريع التي أشار إليها محمد في أول فيديو: فندق تريومف في الشويفات، قصر المعمورة… إلخ، وعرض ميزانيات تلك المشاريع على الملأ.
مرحلة ما بعد علي
أما الخبير الإعلامي شريف عبدالعزيز، فاعتبر أن ما فعله محمد علي هو كسر الحاجز، وأنزل مهابة هذا النظام إلى ما تحت الأقدام، وهي خطوة غير مسبوقة.
وأضاف أن محمد علي يرسل رسائل للناس أي نعم ولكن جزء مهم من هذه الرسائل موجهة للذين لا يعجبهم الوضع من داخل النظام وهم كثيرون ولكنهم خائفون، ولعله يقوي بعضهم بعضا، ويحدث ما نريده أن يحدث من خير لهذه البلد وخروج من هذا المستنقع العميق الذي نحن فيه.
وتوقع شريف عبدالعزيز السيناريو السالف والخاص بمساعي النظام لاحتواء الفضائح، وسيكون "بحض أهل علي بالرد عليه ترغيبا أو ترهيبا، بتلفيق تهم له، بمحاولة إيذائه هو أو أهله، بتخويف الناس، بنشر معلومات مربكة، بأخذ قرارات سياسية مثل إقالة أشخاص أو تعيين أشخاص، ولكن الأمر في ظني أصبح ملعبا مفتوحا فقد حدث المستحيل ومر بمنتهى السلاسة، وأصبحت المرحلة ما "قبل علي" تختلف عن مرحلة "ما بعد علي"، وعلينا نحن أن نفعل ما تقتضيه ضمائرنا، فكما سيقوم بعض "المواطنين" بالرد على علي، يجب على الأغلبية الساحقة أن تقف مع علي علانية، وهذا هو الشيء الوحيد المنطقي".