Akhbar Alsabah اخبار الصباح

إمبراطورية حميدتي الاقتصادية

حميدتي نجح قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي" في الصعود سريعا خلال السنوات الأخيرة ليصبح الوجه الأبرز سياسيا وعسكريا واقتصاديا في أحد أهم مراحل السودان التاريخية بعد سقوط رموز النظام السابق.
فعقب إطاحة الرئيس عمر البشير قفز حميدتي إلى منصب نائب رئيس المجلس العسكري ثم عضو مجلس السيادة المؤلف من 11 عضوا وسيدير البلاد لفترة انتقالية ويحل محل المجلس العسكري.

وكانت ثروة حميدتي ومصادر تمويله الهائلة والغامضة داخليا وخارجيا أحد الأسباب الرئيسية التي دعمته ليتحوّل إلى أحد أبرز اللاعبين على الساحة خلال فترة يشهد فيها ذلك البلد تغييرا جذريا وسط معاناته من اضطرابات أمنية واقتصادية ومعيشية متواصلة.

إمبراطورية حميدتي الاقتصادية الشاسعة تشكلت في عهد الرئيس السابق، عمر البشير، الذي قدم له تسهيلات كبيرة وامتيازات حصرية في العديد من القطاعات التجارية، كما فُتحت له أبواب أخرى أهمها الحصول على دعم خارجي هائل.
في هذا التحقيق رصدت "العربي الجديد" خمسة مصادر وراء الثراء الفاحش والسريع لقائد قوات الدعم السريع عبر معلومات موثّقة شملت شهادات ميدانية وتصريحات من مصادر مسؤولة ومحللين وصحف أجنبية وفيديوهات وغيرها.

وتمثلت مصادر ثروته الخمسة في التجارة، والذهب، ومساعدات أوروبا لوقف الهجرة غير الشرعية، وميزانية مباشرة من البشير خارج رقابة الدولة لتمويل حرب دارفور، والتمويل الإماراتي السعودي.
وكان البشير اعترف أثناء محاكمته، يوم الاثنين الماضي، بأنه سلم شقيق حميدتي (عبد الرحمن دقلو القيادي البارز في قوات الدعم السريع) مبالغ من الأموال التي حصل عليها من الإمارات والسعودية والبالغة 91 مليون دولار.

مساعدات تساوي ربع الموازنة
أسرار كثيرة صاحبت صعود قائد قوات الدعم السريع أو مليشيا الجنجويد في السودان إلى قائمة أثرى أثرياء السودان، حسب وصف تقرير لـ"بي بي سي" له في يوليو/ تموز الماضي. وما كشف عن امتلاكه موارد مالية هائلة، منحه خزينة الدولة السودانية مبلغا يتجاوز مليار دولار، وتسديد رواتب الشرطة السودانية نقداً لمدة ثلاثة أشهر.
وقال حميدتي في مؤتمر صحافي نقله التلفزيون السوداني وعدد من القنوات المحلية، يوم 27 إبريل/ نيسان الماضي: "أول حاجة أمّنا حاجات الناس ودفعنا الديون، واليوم كدعم سريع دافعين مليار و27 مليون دولار للحكومة".

كل هذه الأموال التي ضخها حميدتي وغيرها كانت من حسابات مصرفية يسيطر عليها عبر أفراد من عائلته أو مقربيه في قوات الدعم السريع، وهذه الحسابات غير مراقبة من الأجهزة المختصة وبعيدة عن عيون الدولة، حسب مصادر مطّلعة لـ"العربي الجديد".
ويقترب ما منحه حميدتي لخزينة الدولة عقب إطاحة البشير من نحو ربع ميزانية السودان الرسمية لعام 2019 والبالغة 4.1 مليارات دولار. فما هو السر وراء هذا الثراء والسيطرة على هذا الكم الهائل من الأموال الضخمة التي لا تدخل حسابات الدولة رسميا؟ وكيف تمكن حميدتي من بناء إمبراطورية مالية ومليشيا عسكرية أصبحت قوة حاسمة ودولة داخل الدولة؟
تساؤلات مشروعة
قال المحلل الاقتصادي السوداني أحمد خليل لـ"العربي الجديد" إنه "لأول مرة في تاريخ السودان نجد أحد زعماء الحرب والمجموعات المسلحة قد تحول فجأة إلى سياسي ورجل دولة بحكم نفوذه العسكري والمالي، وبالتالي أعتبر ذلك حدثا جديدا في السياسة السودانية غير معتاد، حيث ظلت السياسة تعتمد على رموز سياسية أو قيادات بمؤسسات عسكرية من الجيش النظامي".


وأضاف خليل أن هذا التحول يذكرنا بحالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي اعتمد على الدعم وثروته الشخصية للوصول إلى السلطة، بالإضافة إلى زعماء في دول أخرى كانوا يمتلكون استثمارات وشركات وأموالاً ودخلوا السياسة عبرها.

وتابع: "نحن لا نعيب على حميدتي ذلك، ولكن هناك تساؤلات مشروعة يجب الإجابة عليها: هل ما تم من ممارسات سابقة وحالية فيه قدر من الشفافية والمنطق؟ أم أنها ليست إلا شبهات ظلت تحوم حول الرجل؟ كما أن السؤال المهم: هل يستطيع إدارة دولة رغم أننا على قناعة بأن إدارة الدولة لا تعتمد على المال والسلاح فقط؟".

البداية عبر التجارة
إمبراطورية حميدتي المالية كما يفسرها مراقبون لـ"العربي الجديد"، نشأت في ظل أوضاع اقتصادية صعبة مر بها السودان تفشت فيها المحسوبية والرشاوى والفساد المالي والإداري، ما جعل قائد قوات الدعم السريع يسير في اتجاه الحصول على امتيازات دون الآخرين ولكنها بعلم الدولة السودانية التي كان على رأسها نظام المؤتمر الوطني.

مصادر مقربة من حميدتي قالت لـ"العربي الجديد" إن بدايته كانت تتمثل في التفرغ لحماية تجارة المواشي، إذ شكّل عصابة صغيرة من المسلحين لحماية الماشية الخاصة به، ثم تطوع لحماية أموال الآخرين "ماشية"، وبما أن تجارة المواشي هي أنشط السلع التجارية بين تشاد ومالي والسودان، فقد بدأ في تقديم خدماته لقوافل تجارة المواشي لحمايتها من السرقة (من لم يدفع للحماية تتم سرقته)، حسب المصادر. وبعد ذلك سيطر على خطوط التجارة مع كل من تشاد وليبيا.
وفي هذا السياق، قال المؤرخ السوداني بابكر الطيب لـ"العربي الجديد" إن طبيعة عمل حميدتي جعلته دائم التنقل بين الكثير من البلدان العربية والأفريقية مثل ليبيا وتشاد وغيرها، وساعده العمل في التجارة على أن يجمع ثروة طائلة أعطته القدرة على القيام بتكوين المليشيات المُسلحة وهذا الأمر قد لفت نظر الحكومة السودانية بقوة، ولذلك فقد عملت على أن تضم هذه التحالفات إلى صفوفها في حربها بدارفور لقمع الاحتجاجات هناك.
ومن جانبه، يقول المحلل السياسي أحمد عمر خوجلي لـ"العربي الجديد" إن حميدتي لم يكتف بالتجارة، ولكن تصارع عبر قوات الدعم السريع، مع المزارعين في مناطق دارفور بسبب موارد "الماء والكلأ والأرض"، ثم تطور البحث عن المال في ظل الحروب المختلفة إلى البحث عن الغنائم بهدف خدمة أصحاب الأجندات السياسية والحربية.

تمويل من الإمارات والسعودية
يتمثل المصدر الثاني لثراء حميدتي في الأموال التي يحصل عليها من السعودية والإمارات مقابل مشاركة جزء من قواته ضمن التحالف العربي في اليمن، كما ثبت حصول مقربين منه على أموال من الدولتين الخليجيتين من خارج الموازنة.

ويحصل حميدتي على مبالغ بمئات ملايين الدولارات من الرياض وأبوظبي، حسب مصادر مصرفية لـ"العربي الجديد" أكدت أن هذه المبالغ يتم تحويلها إلى حسابات مصرفية خاصة لمقربين منه في مصرفين بالعاصمة الخرطوم.

وقالت المصادر، التي رفضت ذكر اسمها، "ما يؤكد ذلك التدافع الكبير في مصرفين سودانيين، نتحفظ على ذكر اسمهما، من الجنود العائدين من حرب اليمن بغية الحصول على أموالهم، وهذا الحسابات تتصل مع حسابات في بنوك إماراتية وسعودية".
ووقعت الإمارات اتفاقاً منفصلاً مع حميدتي لإرسال قوات من مليشياته من الجنجويد إلى اليمن، في أعقاب بدء الحرب ضد الحوثيين عام 2015، حيث تقوم هذه المليشيا بحماية ميناء الحديدة والحدود السعودية مع اليمن. وحسب تصريحات حميدتي فإن لديه حالياً نحو 30 ألف مقاتل في اليمن.

وكان البشير، الذي تولى حكم السودان في الفترة ما بين عامي 1989 و2019، أقر باستلامه 90 مليون دولار من السعودية ومليون دولار من الإمارات.
وقال البشير أثناء محاكمته، يوم الاثنين الماضي، إن هناك مبالغ سلمها لنائب قائد الدعم السريع حميدتي (عبد الرحيم دقلو).
وأقر البشير بحسب إفادات المحقق في جلسة المحاكمة بأنه صرف تلك الأموال من دون مستندات.

أموال الحرب في دارفور
مع تصاعد حرب دارفور كان حميدتي صاحب السلطة هناك ويتصرف فيها كحاكم منفرد لا يخضع إلا لسلطة البشير.
وكان يأخذ بالتالي ميزانية خاصة من الحكومة، ولكنها لا تمر بديوان المحاسب العام أو تخضع للمراجعة وإنما يجيزها البشير، حسب مصادر لـ"العربي الجديد".

ومن جانبه، أكد المحلل أحمد عمر خوجلي لـ"العربي الجديد" أنه من خلال النفوذ أصبحت الحرب مقابل المال والسلاح، فالنظام يريد الحماية، والدعم السريع لم ينس صراعه الأول من أجل المال، ودخلت القوات في ظل تعقيدات الأوضاع المحلية والإقليمية إلى مرحلة جديدة.
وما ساهم في صعود نفوذ حميدتي المالي والعسكري، شره السلطة لدى البشير في حربه ضد منطقة دارفور غرب السودان، وتدريجياً أصبح الرئيس المخلوع يعتمد عليه في قمع المعارضين مقابل منحه سلطات مطلقة في منطقة دارفور والسيطرة على خطوط التجارة وحرس الحدود ومنحه الأموال المطلوبة لتنفيذ المهام.

السيطرة على الذهب
مع مرور الوقت ذهب حميدتي نحو تعظيم ثروته عبر الذهب في منطقة جبل عامر الغنية بالذهب. وفي جولة ميدانية لـ"العربي الجديد" بجبل عامر يقول المواطن إبراهيم الزين أحد العارفين بالمنطقة: رغم أن وزارة المعادن قد منعت استخدام مادة "السيانيد" في عمليات التنقيب عن الذهب، إلا أن شركته (الجنيد) تستخدم تلك المادة المؤثرة على المواطنين والبيئة دون رقيب، مؤكدا أن الشركة تحتكر "كارته الذهب" من بقايا التنقيب الأهلي الموجود في دارفور.

يضيف الزين لـ"العربي الجديد": "إن السيطرة كانت شبه كاملة لقائد قوات الدعم السريع على الذهب السوداني، والضوء الأخضر من قبل حكومة البشير جعل ثروات المعدن الأصفر متاحة للتهريب إلى دولة تشاد وتحويل المنفعة لحساباتهم الشخصية بجانب الحسابات المتوافرة في الإمارات التي يقوم بالنيابة عنه شقيقه (اللواء بقوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو) بالتصرف فيها، وما يؤكد ذلك هو تردده إلى الإمارات كثيرا خلال الفترة الأخيرة".

وحسب المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي الأميركية، أليكس دي وال، في مقال نشره موقع "بي بي سي" الإنكليزي في يوليو/ تموز الماضي، برزت خريطة ثراء جديدة لحميدتي يقودها الذهب الذي بات يمثل 40% من صادرات السودان.
ويشير أليكس دي وال، إلى أن حميدتي أسس مجموعة الجنيد، التي توجد لها مكاتب في واشنطن ودبي ويديرها أخوه عبد الرحمن دقلو، وكانت تقوم الشركة بتعدين الذهب وشحنه مباشرة إلى دبي.

الهجرة غير الشرعية
أما المصدر الخامس لثراء حميدتي، فكان المقابل الذي حصل عليه لمواجهة الهجرة غير الشرعية، إذ حصل على مئات ملايين الدولارات من أوروبا وتحت سمع وبصر البشير مقابل حراسة الحدود ومنع الهجرة إلى القارة العجوز.
ووفقا لمصادر مطلّعة لـ"العربي الجديد" كانت نسبة كبيرة من أموال أوروبا تذهب مباشرة لحسابات خاصة يشرف عليها حميدتي ولا تقع تحت رقابة الأجهزة الحكومية في السودان ولا تدخل في الموازنة.

وفي مقابلة شهيرة ببرنامج "حال البلد" بتلفزيون سودانية 24 في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي طالب قائد قوات الدعم السريع بشكل واضح بضرورة دفع الاتحاد الأوروبي المقابل المالي اللازم مقابل الجهود التي تقوم بها قواته في وقف المهاجرين.
وفي السياق، يتهم أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية، حامد التجاني، قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي في الاتجار بالبشر وليس منع الهجرة غير الشرعية عن طريق علاقاتها مع عصابات المهربين في ليبيا، مشيرا إلى أن الاتجار بالبشر أصبح أحد أهم الموارد المالية التي تعتمد عليها مليشيات الدعم السريع في تمويل نفسها.

ويقول التيجاني في تصريح لشبكة عاين (موقع محلي مستقل أسسه سودانيون) إن قادة في الدعم السريع أصبحوا يعملون وسطاء في عمليات هجرة غير شرعية وتهريب البشر.
وحسب شبكة عاين، تقدر تقارير أموال المساعدات التي دفعها الاتحاد الأوروبي للسودان بموجب عملية الخرطوم للقيام بمهمة مكافحة الهجرة غير الشرعية بـ200 مليون يورو في الفترة بين 2016 و2018.
سياسة | المصدر: العربي الجديد | تاريخ النشر : الجمعة 23 اغسطس 2019
أحدث الأخبار (سياسة)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com