الفساد في المملكة العربية السعودية هو موضوع الجزء الثاني من سلسلة وثائقية تعرض في قناة «بي بي سي التلفزيونية الثانية» BBC2 بعنوان «آل سعود.. عائلة في حالة حرب».
يبدأ الفيلم، الذي عرض الثلاثاء، بواقعة اعتقال ما يقرب من 500 من أكثر الأمراء ورجال الأعمال ثراءً في المملكة واحتجازهم في فندق الريتز في العاصمة السعودية، طارحا سؤالا بسيطا ومباشرا: «هل ينجح ولي العهد السعودي الجديد محمد بن سلمان في تخليص المملكة -التي يقال إنها أفسد بلدان العالم على الإطلاق- من هذا المرض العضال؟»، ومشيرا في الوقت نفسه إلى أن الإجراءات التي اتخذها الأمير مؤخرا بثت الرعب في أوصال العائلة الملكية الحاكمة التي بات أمراؤها ترتعد فرائصهم خوفا بعد أن عاشوا دهرا لا يأبهون لأحد ولا يردعهم رادع.
القصة الأولى: الأمير تركي بن عبدالله
بعد المقدمة، يسرد الفيلم حكاية واحد من أمراء آل سعود الذين لم يتوقفوا لعقود عن ملء جيوبهم بالمال بالطرق غير المشروعة كافة. وتبدأ الحكاية في العاصمة الماليزية كوالالمبور؛ حيث خرج جمهور من الناس في مظاهرة؛ للتعبير عن غضبهم من تعرضهم للنهب بعد اختفاء مليارات الدولارات من المال العام من شركة اسمها 1MDB، التي هي بمنزلة صندوق الثروة السيادي الماليزي الذي من المفروض أن تعود استثماراته على الشعب الماليزي. وقصة نهب هذا الصندوق السيادي كما يرويها عضو البرلمان الماليزي المعارض طوني بووا تتمثل في قيام الحكومة باقتراض ما يقرب من 1.2 مليار دولار من الصندوق لاستثمارها في شركة سعودية لم يسمع بها أحد اسمها «بترو سعودي» أحد مؤسسيها هو الابن السابع للملك السابق، إنه الأمير تركي بن عبدالله.
بدأت القصة في إمارة موناكو المطلة على البحر المتوسط؛ حيث أبرمت صفقة 1MDB الأولى مع بترو سعودي على ظهر يخت فاخر تابع لموناكو اسمه «تاتوش» استأجره الأمير تركي خصيصا لهذه المناسبة. كان على متن اليخت في ضيافة الأمير تركي رئيس وزراء ماليزيا، نجيب رزاق، وأفراد عائلته. بعد أن استثمرت ماليزيا ما يقرب من مليار دولار في الشركة السعودية، اختفى منها خلال أيام ما يقرب من 700 مليون دولار.
رغم ما حدث، مضت 1MDB لتستثمر المزيد من المليارات في مشاريع مشتركة أخرى، إلا أن معظم المال ما لبث أن اختفى دون أثر. ما كان لافتا هو أن نجيب لم يكن فقط رئيس وزراء ماليزيا بل وزير المالية فيها وصاحب التوقيع وحامل الأسهم الوحيد لهذا الصندوق السيادي، فكان هو المتحكم في الطريقة التي جمعت بها الأموال ثم أين وكيف أنفقت. كل ما خرج به الشعب الماليزي هو ديون ضخمة متراكمة.
في شهر مارس من عام 2013 تم تحويل ما مقداره 681 مليون دولار إلى الحساب الشخصي لرئيس الوزراء.
ما لبثت الفضيحة أن وصلت إلى سواحل الولايات المتحدة الأميركية، التي وصف فيها مكتب التحقيقات الفيدرالية ما جرى لشركة 1MDB بأكبر عملية احتيال وسرقة حكومية في التاريخ. بدأت السلطات في وضع أيديها على ممتلكات، منها لوحة للفنان مونيه، وطائرة ركاب خاصة ثمنها 33 مليون دولار، وعقارات في بيفرلي هيلز في هوليوود، على اعتبار أنها مقتنيات اشتريت بأموال نهبت من شعب ماليزيا. وكان منها استثمار في فيلم هوليوود (ذئب وال ستريت). ولعل من المفارقات أنه يحكي قصة فساد واحتيال مستشرٍ. وبينما يستمر مكتب التحقيقات الفيدرالي في تحقيقاته يصر رئيس وزراء ماليزيا على أنه لم يرتكب ما يعيبه، وأن مبلغ 681 مليون دولار كان هدية من أمير سعودي آخر، وأنه ما لبث أن أعاد معظم المبلغ إليه.
في الوقت نفسه، تشير رسائل إيميل مسربة إلى أن الأمير تركي بن عبدالله جنى أرباحا طائلة على شكل عمولات من مشاركته في عملية الاحتيال التي تم بموجبها سحب الأموال من 1MDB؛ حيث إنه بمجرد إيداع أول دفعة من المال في بيترو سعودي، تم تحويل ما مقادره 77 مليون دولار إلى حساب الأمير الشخصي.
القصة الثانية: الأمير ثم الملك عبدالله والحرس الوطني
يذكر الفيلم بأنه على الرغم من أن آل سعود يتحكمون بما يقرب من خمس احتياطي النفط في العالم، إلا أن كل ما يدره ذلك عليهم من مال لا يبدو كافيا بالنسبة لهم. يقول تشاز فريمان، السفير الأميركي السابق في السعودية (1989-1992) إن ثراء كبار أفراد العائلة الحاكمة مصدره العمولات والرشاوى التي يتقاضونها على مشاريع الخدمات العامة داخل البلاد. ويقول أندرو فينستين، مؤلف كتاب «عالم الظل.. داخل تجارة الأسلحة العالمية»: «في رأيي، كمحقق وباحث منذ زمن طويل في قضايا الفساد، لم تمر علي معاملة تجارية مع المملكة العربية السعودية، لم يتم فيها دفع مبالغ طائلة من الرشاوى».
ثم يعود الفيلم 50 عاما إلى الوراء، إلى ستينيات القرن الماضي، التي شهدت بداية ثراء السعودية من النفط واهتمام دوائر الحكومة البريطانية بذلك سعيا لاستغلال الفرصة التجارية المتاحة. ودار حينها جدل داخل أروقة الحكومة حول ما إذا كان يتوجب على بريطانيا دفع عمولات ورشاوى لضمان حصة لها في السوق السعودية. وكانت الخلاصة أنه لا مفر من أجل ضمان توقيع صفقات تسليح مع السعودية دفع عمولات لكبار المسؤولين فيها، وهذا ما جرت عليه العادة باستمرار منذ ذلك الحين. وتشير الوثائق التي يعرضها الفيلم أن كبار الأمراء، بمن فيهم العاهل السعودي السابق الملك عبدالله، كانوا يتلقون الرشاوى باستمرار لتمرير الصفقات.
كان عبدالله من أكثر الأمراء نفوذا، وقد عين في ستينيات القرن الماضي رئيسا للحرس الوطني، الذي يتشكل من قوات من البدو، ولاؤها الأول والأخير للملك. كان عبدالله يرغب في تحديث قوات الحرس الوطني، وأراد الحصول على الأسلحة اللازمة لذلك من بريطانيا، لكنه لم يرغب في مناقشة موضوع الرشاوى وجها لوجه، حسب ما جاء في الفيلم. وهنا ينتقل المشهد إلى بيروت التي طرق باب السفارة البريطانية فيها شخص، ادعى أنه مقابل عمولة معينة بإمكانه إقناع السعودية بشراء أسلحة لتحديث الحرس الوطني من بريطانيا. كان ذلك الشخص هو محمود فستق، شقيق زوجة الأمير ثم الملك عبدالله. ينبغي التنويه هنا أنه ورد خطأ في الفيلم أن فستق متزوج من شقيقة الملك، والعكس هو الصحيح؛ أي أن فستق هو خال أولاد الملك عبدالله من زوجته اللبنانية السابقة تلك. المهم أن محمود فستق كان في وضع يؤهله لأن يؤدي دور الوسيط.
وافقت بريطانيا على تسليم محمود فستق 7.5 بالمئة من قيمة العقد، أي ما يعادل في عملة اليوم 170 مليون جنيه إسترليني. لكن العائق الذي واجههم أن الأمير عبدالله لم يتمكن من إقناع مجلس الوزراء بالموافقة على الصفقة، فانتهت إلى الفشل. ولكن تمكن الأمير عبدالله بعد سنوات قليلة من توقيع عقد أكبر بكثير مع الحكومة البريطانية لتزويد الحرس الوطني بأجهزة اتصالات. عادت الصفقة على الأمير عبدالله بما يقرب من نصف مليار جنيه إسترليني من الرشاوى.
ظلت كل الحكومات البريطانية المتعاقبة، الواحدة تلو الأخرى، تحرص على بقاء هذه التفاصيل المحرجة طي الكتمان، وظلت الحال كذلك لما يقرب من 40 عاما. ثم في عام 2005 توج الأمير عبدالله ملكا على السعودية، وكانت أسرار صفقات السلاح التي أبرمها مع بريطانيا لا تزال محفوظة. بعد 5 أعوام استلم إيان فوكسلي، وهو عسكري بريطاني سابق، مهام عمله كمدير للبرامج في الرياض لدى شركة مقاولات عسكرية اسمها GPT، ودوره تنفيذ خطة تحديث تجهيزات الاتصال داخل الحرس الوطني بقيمة 1.96 مليار جنيه إسترليني على مدى 10 أعوام. إلا أنه فوجئ بأنه ثالث مدير برامج يتم التعاقد معه خلال 6 شهور، فبدأت تساوره الشكوك.
عندما طُلب منه التوقيع على إحدى الفواتير لاحظ وجود بند في الفاتورة اسمه خدمات مشتريات بقيمة 1.5 مليون جنيه إسترليني، من أصل ما يقرب من 12 مليون جنيه إسترليني هي قيمة الفاتورة الأصلية. فلما سأل عما يعنيه ذلك، قيل له إنها خدمات غير متوفرة داخل الشركة يتم التعاقد عليها، اتضح فيما بعد أن أسئلته سببت إشكالا. ونظرا لأن العقد موقع في الأساس مع وزارة الدفاع البريطانية توجه إليهم في مكتبهم الكائن في الرياض ليستوضح الأمر منهم، ولينبههم إلى أن ثمة تلاعبا يجري. فلما اتصل مكتب الرياض بالمقر الرئيسي في لندن ليخبرهم بالأمر، طلبوا منه أن يغض بصره وألا يحرك ساكنا. بمعنى آخر، على الرغم من أن فوكسلي اكتشف دليلا على الفساد في أحد العقود المبرمة مع وزارة الدفاع البريطانية، إلا أن المسؤولين فيها طلبوا منه الصمت لأنهم كانوا على علم بما يجري ويتسترون عليه. وكان جزاء فوكسلي أن هددته شركة GPT بالاعتقال والسجن، فما كان منه إلا أن استقل أول طائرة، وعاد إلى بلاده قبل أن ينالوا منه.
وفي بريطانيا، تواصل مع فوكسلي صحفي من مجلة «برايفيت آي» اسمه ريتشارد بروكس، الذي وجد في حوزته وثائق في غاية الخطورة، تثبت حسب قوله إن الشركات الكبرى متعددة الجنسيات التي تعمل في قطاع الدفاع، تقدم المصالح التجارية على الأخلاق وعلى الأمانة والنزاهة. وخلاصة الأمر أن هذه الشركات كانت تتستر على الرشاوى والعمولات تحت مسميات متعددة مثل «خدمات مشتريات».
من الشخصيات التي كانت محورية في عملية دفع الرشاوى، رجل الأعمال البريطاني بيتر أوستن، الذي كان يملك جزيرة في الكاريبي، يعرضها للتأجير مقابل 13 ألف جنيه إسترليني في الليلة الواحدة. وكان دوره على مدى أعوام مديدة جمع أموال الرشاوى نيابة عن السعوديين وتسليمها إلى بطانة الملك عبدالله. تقدر قيمة الرشاوى التي دفعت طوال فترة هذا العقد بالذات بنصف مليار جنيه إسترليني.
في عام 2012 فتح مكتب مكافحة الاحتيال والفساد في بريطانيا تحقيقا في المزاعم التي تقدم بها إيان فوكسلي. ما زالت التحقيقات مستمرة، ولم يتم توجيه تهم لأحد حتى هذا اليوم، ولذلك رفضت شركة GPT وكذلك وزارة الدفاع البريطانية التعليق على القصة بحجة أن التحقيق ما زال مستمرا.
القصة الثالثة: الأمير سلطان ووزارة الدفاع
يذكر الفيلم بأن الملك عبدالعزيز، مؤسس الدولة السعودية الحديثة، كان مشهورا بتوزيع العطايا، ولم يعرف عنه، ولا عن ابنه فيصل الذي أصبح ملكا في الستينيات من القرن الماضي شيء من الفساد. فاضت خزائن الدولة في عهد فيصل بالأموال فبدأ عملية التحديث التي شملت إنشاء وزارات متخصصة مثل الدفاع والداخلية، ووضع على رأس كل وزارة من هذه الوزارات واحدا من أشقائه. وكان هؤلاء يحافظون على مواقعهم في الوزارات إلى أن يقضوا نحبهم، كما يقول بروس ريديل، صاحب كتاب: «ملوك ورؤساء- السعودية وأميركا».
ومع مرور الزمن أصبحت كل واحدة من هذه الوزارات مركز قوة ومصدر إثراء للأمير المسؤول عنها.
كان الأمير سلطان وزير الدفاع من أسوأ هؤلاء الأمراء سمعة. فحسبما يفهم من إحدى البرقيات الدبلوماسية، لم يكن يسلم عقد واحد من شهوته في الإثراء. وحسب شهادة السير ويليام باتي، سفير بريطانيا إلي السعودية في الفترة من عام 2007 إلى عام 2010، كثيرا ما كانت تتداخل أموال الأمير الشخصية مع أموال الوزارة الرسمية. بدأت الرشاوى بمعدل 7 بالمئة وظلت ترتفع إلى أن وصلت لـ15 بالمئة من قيمة كل صفقة. في البداية تداعى المسؤولون في الحكومة البريطانية إلى وضع حد حتى لا يتمادى الأمر ويخرج عما هو مستطاع، ولكنهم عادوا وتراجعوا خشية فقدان آلاف الوظائف في مصانع السلاح البريطانية.
في عام 1995 وقعت بريطانيا والمملكة العربية السعودية أكبر صفقة سلاح في تاريخ البلدين اسمها «اليمامة». باعت بريطانيا للسعودية بموجب هذا العقد أسلحة بما قيمته 43 مليار جنيه إسترليني. اشتملت الصفقة على مختلف أنواع الأسلحة ولكن الجزء الأكبر منها كان يتعلق بطائرات مقاتلة، بما في ذلك الصيانة والتدريب. جنت بريطانيا عشرات المليارات من الجنيهات من هذه الصفقة التي كان من بنودها الإبقاء على موضوع الرشاوى والعمولات طي الكتمان.
القصة الرابعة: الأمير تركي بن ناصر
في سبعينيات القرن الماضي، كان بيتر غاردنر يدير مكتبا للسفريات يقدم الخدمات للأثرياء، الذين سرعان ما أصبح من أهمهم الأمير تركي بن ناصر الذي كانت لندن بمنزلة موطنه الثاني. وكان الأمير تركي كلما أراد القيام برحلة إلى الخارج، يتصل ببيتر غاردنر حتى يرتبها له، ولم يكن المال عائقا في يوم من الأيام. ورغم أن الأمير تركي كان ثريا من قبل إلا أن بذخه في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي فاق الخيال، بحسب ما يرويه بيتر غاردنر، وكانت مصاريفه في لندن تتجاوز في بعض الأحيان مليوني جنيه إسترليني في الشهر الواحد.
كان الأمير تركي يملك إقطاعا كبيرا في منطقة لوس أنجيليس في الولايات المتحدة، كان من مهام بيتر غاردنر التردد على المكان لتوفير الخدمات المطلوبة منه. وفي إحدى المرات استأجر طائرة جامبو جيت Boeing 747 فقط لجلب مشتريات اقتناها الأمير في إحدى رحلاته. من أين يا ترى جاء تركي بن ناصر بكل تلك الأموال التي كان يبددها يمنة ويسرة؟
كان الأمير تركي لواءً في سلاح الجو السعودي وكان يحصل على عمولات ضخمة من صفقة اليمامة. كانت شركة BAE هي التي تقوم بتصنيع الطائرات التي تزود بها السعودية نيابة عن الحكومة البريطانية، وكانت هذه الشركة هي التي تدفع تكاليف الرحلات الباذخة التي كان يقوم بها الأمير تركي. علم بيتر غاردنر بالقصة في عام 1989 عندما كلفه الأمير تركي بالتواصل مع مسؤول كبير في شركة BAE وأخبره بأن ما يجري أمر متفق عليه بين الحكومتين، ولكنه أمر غاية في السرية وينبغي أن يبقى كذلك.
تبدلت الأمور في عام 2002 عندما سن البرلمان البريطاني قانونا جديدا حول مكافحة الرشوة، وكانت تلك مناسبة مواتية لأن يبوح بيتر غاردنر بما لديه لصحيفة الغارديان التي نشرت على صفحتها الأولى تقريرا يتهم شركة BAE بدفع رشى ضخمة لضمان صفقات السلاح مع السعودية.
إلا أن ما كان يحصل عليه تركي بن ناصر لم يكن سوى الفتات؛ إذ تبين فيما بعد أن الحكومة البريطانية دفعت حتى تضمن إبرام الصفقة رشاوى للأمراء والمسؤولين السعوديين، عبر وسطاء، بقيمة 6 مليارات جنيه إسترليني، فيما بات يعرف بأفسد تعامل تجاري في التاريخ البشري.
القصة الخامسة: الأمير بندر بن سلطان والتباهي بالفساد
الأمر الآخر الذي يكشف عنه الفيلم فيما يتعلق بصفقة اليمامة، هو أن السعوديين أصروا على دفع ثمن الأسلحة ليس نقدا وإنما ببراميل النفط. إلا أن أسعار النفط لم تكن ثابتة. وكثيرا ما يحدث أنه عندما يباع النفط لدفع قيمة السلاح يزيد مبلغ من المال. كان من المفترض أن يعاد المال الفائض إلى وزارة المالية السعودية إلا أنه، وبموجب تفاهم بين المتعاقدين في اليمامة، كان الفائض يودع في حساب في بنك إنجلترا.
على مدى 20 عاما، مرت مليارات الجنيهات عبر بنك إنجلترا. بعض هذا المال كان يحول إلى حسابات في الولايات المتحدة يديرها ويتحكم بها ابن وزير الدفاع في المملكة العربية السعودية الأمير بندر بن سلطان، الذي كان دوما يصر على أن تلك الحسابات لم تكن حساباته الشخصية، وإنما حسابات تابعة للحكومة تحت إشرافه.
إضافة إلى المليارات التي دخلت حسابات بندر تلك، حصل الأمير، الذي كان سفيرا لبلاده في واشنطن، على هدية بمناسبة عيد ميلاده، طائرة إيرباص ضخمة طليت بألوان فريق كرة القدم الأميركي المفضل لديه «ذي دالاس كاوبويز» وحتى عام 2007 ظلت تكاليف تشغيل وصيانة هذه الهدية يتكبد جزءا كبيرا منها دافعو الضرائب في بريطانيا.
توالت الفضائح حسبما يظهر الفيلم؛ حيث اكتشف مكتب مكافحة الاحتيال والفساد أن ملايين أخرى قد تم تسريبها من الحسابات في بنك إنجلترا إلى حسابات سرية في مصارف أوفشور. تتبع المحققون مسار الأموال إلى أن تقفوا أثر بعضها في بنوك سويسرا، ولكن بحلول صيف عام 2006، علم المحققون البريطانيون أن السلطات السعودية لم تكن راضية عما يجري ورغبت في إغلاق باب التحقيق بشكل تام. وفي شهر ديسمبر من عام 2006 أبلغت الحكومة البريطانية رسميا رئيس مكتب مكافحة الاحتيال والفساد، بأن الحكومة السعودية تهدد بوقف التعاون مع الحكومة البريطانية في جهود مكافحة الإرهاب إذا لم يغلق ملف التحقيق في قضايا الفساد. فخضع البريطانيون للتهديدات السعودية خشية أن ينال بريطانيا شيء من الإرهاب. وأخيرا تدخل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بنفسه ووقع على خطاب أوصى فيه بالتخلي عن التحقيق في قضايا الرشاوى التي كانت تدفعها شركة BAE.
بعد إغلاق الملف في بريطانيا، فتح الأميركان تحقيقا في الموضوع، إلا أن الحكومة البريطانية كانت عازمة على حماية آل سعود من الفضائح ومن الملاحقة القانونية، ولذلك كان موقفها تجاه المطالب الأميركية بأن ما يتوفر لديها ولدى شركة BAE يعتبر معلومات سرية للغاية ولا يسمح لأسباب أمنية بتبادلها مع أحد. إلا أن السلطات الأميركية لم تيأس واستمرت في إجراءاتها، إلى أن ألجأت شركة BAE إلى الاعتراف بأنها قامت بممارسات غير قانونية وأنها ضللت الحكومة الأميركية بشأن دفعها مبالغ مالية لضمان إبرام صفقات معينة. وفي نهاية المطاف أصدرت محكمة أميركية حكما بتغريم شركة BAE أربعمائة مليون دولار، فيما اعتبر حينها أضخم غرامة مالية تفرض على مؤسسة تجارية في التاريخ.
وبعد شهور قليلة من إغلاق بريطانيا لملف القضية، وقعت الحكومة البريطانية عقدا ملحقا بصفقة اليمامة بمليارات عدة، بما يضمن آلاف الوظائف في الصناعات العسكرية والجوية في بريطانيا.
يتضمن الفيلم إشارة إلى مقابلة أجريت في عام 2001 مع الأمير بندر بن سلطان الذي بدا فيها مبررا للفساد. يقول بندر في مقابلته تلك: «لسنا نحن الذين ابتكرنا الفساد. فهذا يحصل منذ أيام آدم وحواء. كان آدم وحواء في الجنة ثم مارسا ما مارساه فتوجب عليهما النزول إلى الأرض. هذه هي طبيعة البشر. إذا كنت تقول لي إننا حين قمنا ببناء هذا البلد بأسره وإنفاق 350 مليار من أصل 400 مليار في ذلك، أننا أسأنا التصرف ومارسنا الفساد بما قيمته 50 مليار، فسأقول لك: نعم».
القصة السادسة: الأمير الوليد بن طلال
آخر قصة يتعرض لها الفيلم هي حكاية الوليد بن طلال الذي كان من المفروض أن يكون الوجه الحداثي للمملكة العربية السعودية. إنه الرجل الذي كون ثروة ضخمة، وصارت له أسهم في كبرى المؤسسات العالمية بما في ذلك تويتر وفيسبوك وأبل، وتقدر ثروته بما يقرب من 30 مليار دولار. ومن الشركات التي استثمر فيها الأمير الوليد «بالاس نيدام»، مؤسسة الإنشاءات الهولندية، التي تتخصص في إقامة البنى التحتية بما في ذلك الطرق والمستشفيات والقواعد الجوية، ولها تاريخ طويل من العمل داخل المملكة العربية السعودية.
فازت بالاس نيدام بمناقصة قيمتها نصف مليار دولار لإعادة تهيئة مهابط المطارات التابعة لسلاح الجو في المملكة العربية السعودية، إلا أن مكتب المدعي العام الهولندي اكتشف شيئا غير طبيعي في طريقة عملها. فقد احتفظت الشركة بمجموعة من الحسابات السرية عرفت باسم «إدارة الظل» فيها قائمة بأسماء نحو 30 شخصا، كثيرون منهم مواطنون سعوديون، ولكنها تشتمل أيضا على كبار أفراد العائلة الحاكمة مثل الملك الراحل فهد، وولي عهده أخيه عبدالله الذي أصبح فيما بعد الملك الراحل عبدالله. يعتقد مكتب المدعي العام أن تلك كانت قائمة بأسماء الناس الذين من المقرر أن تصل إليهم دفعات مالية بمئات الملايين من الدولارات. إلا أن هذه الدفعات، كما يقول الفيلم، كانت في الواقع رشاوى لضمان حصول الشركة على المناقصة الخاصة ببناء المطارات.
تشير الوثائق المسربة إلى أن كثيرا من الرشاوى ذهبت إلى شخص فاحش الثراء، إنه الأمير الوليد بن طلال، رجل الأعمال الأشهر في المملكة العربية السعودية، الذي حصل على 316 مليون دولار.
ومن العجائب التي كشف عنها البرنامج الوثائقي أن قيمة هذه الصفقة كانت 580 مليون دولار. إلا أن بالاس نيدام دفعت لضمان الحصول عليها رشوة قدرها 330 مليون دولار، أي أن قيمة الرشوة كانت 57 بالمئة من قيمة الصفقة.
والمثير في الأمر أنه حينما قضت محكمة هولندية على شركة بالاس نيدام بدفع غرامة قدرها 5 ملايين يورو لأنها دفعت أموالا غير مشروعة لعملاء أجانب، لم يرد ذكر البلد الذي ينتمي إليه هؤلاء العملاء الأجانب. وبذلك ظل اسم المملكة العربية السعودية محميا في كل هذه القضايا ورغم كل الفضائح، وما ذلك إلا بسبب حرص البلدان الأوروبية على خدمة مصالحها مع المملكة.
ينتهي الفيلم بما بدأ به، وهو ما يسمى العلاج بالصدمة الذي بدأه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في نوفمبر الماضي، حينما أمر بإخلاء فندق الريتز في الرياض من نزلائه ليحتجز فيه ما يقرب من 500 شخص من كبار الأثرياء من الأمراء والتجار ورجال الأعمال وموظفي الدولة، وذلك بعد أن أصدر والده أمرا بتشكيل هيئة لمكافحة الفساد عينه رئيسا لها، بينما أمر هو بإغلاق منافذ البلاد، فيما يشبه الانقلاب.
لم تصدر قائمة كاملة بأسماء المحتجزين، ولكن ممن عرف منهم:
الأمير تركي بن عبدالله، الذي جنى الملايين من صفقة الاحتيال الخاصة بشركة 1MDB الماليزية التي بدأ الفيلم بذكرها.
الأمير تركي بن ناصر، لواء سلاح الجو السعودي، الذي تلقى دفعات مالية بعشرات الملايين من شركة BAE البريطانية كجزء من صفقة اليمامة.
الأمير الوليد بن طلال أكثر رجال الأعمال السعوديين ثراءً، الذي ورد ذكره في قضية الفساد الخاصة بشركة الإنشاءات الهولندية.
ينقل الفيلم عن مسؤولين في الحكومة السعودية أن هدفها هو استعادة 100 مليار دولار من الأموال التي جناها أصحابها بغير وجه حق. وحتى الآن جمدت حسابات ما يقرب من 400 شخص، وانتشرت مزاعم بتعرض المعتقلين للتعذيب.
يخلص الفيلم إلى التحذير من أن ما جرى في السعودية لا يبدو أنه حرب حقيقية على الفساد بقدر ما هو سعي من قبل الأمير الشاب محمد بن سلمان لإحكام قبضته على السلطة في بلاده التي بات فيها هو الآمر الناهي والمتحكم بكل مفاصل الدولة، التي لا برلمان فيها ولا رقابة من أي نوع. ففي الوقت الذي حظيت فيه حملة ولي العهد على الفساد باهتمام المراقبين حول العالم، إلا أن أسئلة كثيرة بدأت تطرح حول ثروته هو، التي يعتقد بأنها واسعة جدا، وكذلك حول نمط إنفاقه وسرفه. ففي أكتوبر 2016 أنفق ولي العهد ما يقرب من نصف مليار دولار على يخت فاخر، بسبب نزوة. ويعتقد بأنه أنفق 300 مليون دولار على قصر فرنسي أعيد بناؤه من الصفر يباهي في مدخله بنافورة مصنوعة من الذهب. إلا أن الأمير نفى مؤخرا مزاعم بأنه يقف وراء مزاد حطم كل الأرقام القياسية على لوحة تنسب إلى الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي دفع فيها 400 مليون دولار.