لم يبق إلا أن يغلّفوا عبد الفتاح السيسي بورق سميك، قبل أن يشحنوه في حاوية مكتوب عليها "مصنّف أثري قابل للكسر".
الأجواء المصاحبة لزيارة نجم نجوم الانقلاب العسكري إلى برلين تزداد سخونة وهزلية، كلما اقتربت لحظة هبوط طائرة "تحيا مصر" في الأراضي الألمانية، إذ يواصل ما يسمى وفد "الدبلوماسية الشعبية" فقراته المسلية في المدن الألمانية، مواصلاً عروضه السياسية والإعلامية التي لا تختلف، شكلاً ومضموناً، عن الخطاب السياسي للزعيم، خليط فريد من الأوهام والأكاذيب الركيكة، تُقدَّم بأداءٍ تمثيلي يبعث على الملل، ولا تكفي لإقناع طفل.
الوفد المسافر لترويج الزعيم "سيس عنخ آمون"، يتصوّر أنه بالإمكان تغيير الصورة التي عرفها العالم عن السلطة الفرعونية الجديدة في مصر، حيث تذهب واحدة من مندوبات تنشيط سياحة وسياسة زعيم الانقلاب إلى وصف رئيس البرلمان الألماني بأنه مجرد "باحث عن الشهرة"، لذلك يهاجم زعيمهم الأثري، كي يعرفه الناس.
يسلك هؤلاء، من دون تجديد أو تطوير، كما فعلوا في زيارة زعيمهم إلى نيويورك، للمشاركة في قمة المناخ، العام الماضي، يشعلون البخور ويدقون الطبول، ويقودون "زفّة شعبية" تغني وتهتف للزعيم، الذاهب لفتح أوروبا، بعد أن غزا أميركا.
في غزوة نيويورك، قلت إن نظام عبد الفتاح السيسي يخلط خلطاً عجيباً بين "مصر" و"منتخب مصر"، وعلى ذلك، تأتي مشاهد البعثة الضخمة المرافقة له، في زيارته إلى نيويورك، أشبه بروابط مشجعي "منتخب علاء وجمال مبارك" لكرة القدم.
جمهور قائد الانقلاب ممّن استولوا على مقاعد قاعة الأمم المتحدة سلكوا، كما كان يفعل مشجعو المنتخب الكروي في المباريات التي يحضرها مبارك وولداه، ولم يكن ينقصهم سوى الطبول والدفوف والأعلام، وفنانات تجاوزن سن التقاعد، لكي نكون أمام مشهد ينتمي بالكلية إلى مدرّجات ملاعب الكرة.
ومن جانبه، لم يترك "اللاعب" شيئاً ممّا يصلح لمداعبة عواطف الجماهير، إلا وقام به، حتى الهتاف لم يتركه للجماهير المشحونة إلى نيويورك جواً، وقرر أن يهتف لنفسه "تحيا مصر"، قالها بالسين بدلاً من الصاد، على عادته في افتراس قواعد التخاطب ونهش اللغة العربية من رقبتها حتى ركبتها.
إعلام الجنرال، هو ذاته إعلام علاء وجمال، وروابط المشجعين ذاتها لم تتغيّر، ومن ثم نقل الإعلام الحدث (حدث هتاف السيسي لنفسه وتصفيق الجماهير المتعصبة له)، باعتباره صيحات تشجيع هادرة من الأسرة الدولية، إعجاباً وافتتاناً بمهارات اللاعب الجديد، وأدائه في أول ظهور له في الملاعب الأممية. هل يختلف ذلك عمّا كانت تصرخ به روابط مشجعي منتخب جمال وعلاء "زي ما قال الريّس منتخبنا كويّس"؟
والحاصل أن شعب السيسي يتعامل معه مثل شخصية "المبروك" في التراث الشعبي، لا يهم ما إذا كان يقول كلاماً معقولاً أم لا، لا يتوقف أحد عند مؤهلاته في الحكم والإدارة، بل يتحوّل إلى "تابو"، أو "تميمة مقدسة"، الاقتراب منها أو المساس بها، يستنزل اللعنات على من يجرؤ على النقد أو المناقشة.
في ألمانيا، كما في أميركا، يعرض عبد الفتاح السيسي بضاعته الوحيدة، خدمات أمنية، للبيع أو للإيجار، في سوق "الحرب على الإرهاب"، مع اختلاف جوهري، يتعلّق بالعوائد، فبعد أن كان المطلوب طائرات أباتشي ومعونات مالية، انخفضت المطاليب إلى إمكانية الرضا بصورة تذكارية مع مستشارة ألمانيا، أو حوار في محطة تلفزيونية أو صحيفة، مسبوقاً بلقب "الرئيس". فالحاصل أن النظام لم يعد يشغله سوى اصطياد شهادات اعتراف به، مدفوعاً بذلك الإحساس بالخواء والعدم، الذي يجعله يتشكك، طوال الوقت، في شرعية وجوده في الحكم، ومن ثم لم يعد يعبأ بوضع مساحيق على وجهه الاستبدادي البشع، متصوراً أن "محاربة الإرهاب" تضمن الاستمرارية.
لقد اجتمع السيسي برؤساء أحزابه، قبل أن يشد الرحال إلى ألمانيا، وتخيّل السُذَّج، أمثالي، أنه سيقدِم على خطوة تبدو تمسّحاً في الديمقراطية، بالدعوة إلى انتخابات نيابية، غير أنه بقي مخلصاً لمحدودية قدراته حاكماً، وضيق أفقه السياسي، وخرج الجميع من اللقاء، يضربون كفاً بكف، ولا يجرؤ أحدهم على الاعتراف بأنه "مغفّل كبير".