Akhbar Alsabah اخبار الصباح

المقاصد والأهداف من نزول الرسالات السماوية

تَعرّف إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدّة المتدبّر لمناسك الحجّ يجد أنّها ترمز إلى أساسيّات الفكرة الدينيّة، بل قد تُلخّص المقاصد والأهداف من نزول الرسالات؛ فالطواف يرمز إلى ضرورة الانسجام مع قوانين الخلق والفطرة. أمّا السعي بين الصفا والمروة فهو يرمز إلى قطبي الخوف والرجاء ودورهما في البناء الحضاري الإنساني، وقد فصّلنا القول في ذلك في مقام آخر. ونريد هنا أن نتوقّف قليلاً عند ركن الوقوف بعرفة، والذي هو الأهم في كل مناسك الحجّ، إلى درجة أنّ الحج يتلخّص في هذا الوقوف؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:" الحجُّ عرفة "، ومن لم يقف بعرفة فحجُّه باطل. إذا أعلن كلُّ حاج بطوافه عن انسجامه، في حركته وسلوكه، مع حركة الكون من حوله، أو بمعنى آخر أعلن عن استسلامه طوعاً كما استسلم الكون، أو بمعنى ثالث أعلن عن رغبته في تحقيق جوهر الإسلام. نعم، إذا تحقق هذا، ثمّ قام الحاج بالإعلان عن خوفه وطمعه، رغبته ورهبته، بسعيه وتردّده بين الصفا والمروة، إذا حصل كل هذا، فقد آن لكلّ هؤلاء أن يقفوا في صعيد واحدٍ في عرفات. نعم، لقد آن لهم أن يتعارفوا، وآن لهم أن يعترفوا لله بالربوبيّة، وأن يعترفوا بفقرهم والتجائهم إليه عز وجل. وآن لهم أن يتعرّفوا إلى الله ليعرفهم. جاء في الحديث الشريف: "...تَعرّف إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدّة..".

يصحّ لغةً أن تكون عرفات جمع عرفة. وكلّ قطعة أرض يقف عليها حاج فهي عرفة، وكلّ موقف لكلّ حاج عرفة. لذا فالموقف كلّه عرفات.
إنّه موقف تعارف، واعتراف، وتعرّف. وما يهمنا في هذه العجالة هو التعارف؛ ففي يوم عرفة تسقط الفوارق والحواجز، وتقف الأمم والشعوب أمام الحقيقة التي تُذكّر بصلة الرحم:" يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا…"، إنّه صوت الدين الخالد يتواصل عبر العصور يَرُدُّ مسيرة البشريّة إلى الطريق المستقيم. ما أكثر النزعات والدعوات والشهوات، التي تحاول أن تنحرف بالمسيرة البشريّة، وتجهد في محاولة طمس حقيقة الأخوّة الإنسانيّة. وتبلغ البشاعة مبلغها عندما تلبس هذه الدعوات لباس الدين، كما هو في العنصريّة الصّهيونيّة، وليدة اليهوديّة المنحرفة.

لم ينزل الدين ليحقق القناعات الفكريّة فقط، بل جاء ليجعل الفكرة عاملة وفاعلة في الواقع البشري. وتكتمل الصّورة عندما يتطابق الواقع المحسوس مع الفكرة، فيكون الانسجام بين النظرية والتطبيق. ويظهر ذلك جلياً في إجابة عائشة، رضي الله عنها، عندما سُئلت عن خُلق الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقالت:" كان خُلُقه القرآن". وفي الوقت الذي يكون فيه الواقع هو الانعكاس الحقيقي للفكرة الإسلاميّة، والتعبير الصادق عن صدقها وفاعليتها، عندها سيشهد الناس اكتمالين؛ الاكتمال الأول، ويكون بتجلّي يأس أعداء الحقيقة الدينيّة من إمكانية تطويق الدين، أو تطويعه، أو الوقوف حجر عثرة أمام مسيرته. ويكون ذلك نتيجةً لمشاهدتهم الواقع غير القابل للنقض والإفناء. أمّا الاكتمال الثاني، فهو تحقّق المقاصد من إرسال الرسالات، وتجلّي الفكرة بتجسدها الكامل في أرض الواقع.

في التاسع من ذي الحِجّة، في يوم عرفة، من السنة العاشرة للهجرة، وبينما الناس جميعاً يقفون في عرفات، يشهدون الموقف، ويشهد لهم الموقف، نزل الوحي بالإعلان الآتي:"... اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام ديناً "، في عرفات اكتملت المعرفة، واكتمل العمل. أمّا البداية فقد كانت في غار حراء والرسول، عليه السلام، في الغار وحده. وبعد سنين وسنين، وبعد أن بُنِيَت الأمة لَبِنة لبنة، كان لا بدّ للبناء أن يكتمل في العلن، وفي ضوء الشمس. كيف لا، وقد أُخرِجت الأمّة وتخرّجت ؟!

أمّا اليوم فإنّ كلّ الوقائع تُرهص بالاكتمال، كما يرهص الهلال باكتمال البدر، مع يقيننا بأنّ التاريخ لن يعيد نفسه، ومع يقيننا بأنّ أمّة الصحابة هي المثال البشري الأعلى الذي لن يتكرر، لأنّه وجد ليكون المقياس. ولكن المؤشّرات كلها تقول إنّ الغد، بإذن الله، خير من اليوم. وقد يَعجبُ البعض من هذا القول، كما عَجِب آخرون من بشريات الرسول، عليه السلام، عندما حاصر الأحزابُ المدينة المنورة، وما علموا أنّ هذا الحصار، والذي كان يمثّل أوج الكيد الكُفريّ، هو في حقيقته وواقعه، الامتحان الذي سيتمّ بعده تخريج خير أمّة أخرجت من أجل الناس.
إسلامنا | المصدر: الشيخ بسام جرار | تاريخ النشر : الأربعاء 29 يوليو 2020
أحدث الأخبار (إسلامنا)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com