Akhbar Alsabah اخبار الصباح

عام على انطلاق الحراك الشعبي الجزائري

الحراك الشعبي الجزائري هل جاء الحراك الشعبي الجزائري نسخة منقحة من ثورات الربيع العربي؟ لمدة سنة كاملة من الاحتجاج لم تفارق إشكاليات الربيع العربي النقاش الدائر في الحراك، وبدا التدافع بين النظام والحراك في شكل مَن استوعب نسبيا مشهد تلك الثورات، وحاول كل طرف الاستبعاد المبدئي لأشكال العنف وجر الطرف الآخر لردود أفعال مؤجِّجة للنزاع، الشيء الذي أضفى على المشهد نوعا من الجمالية والسلوكيات الحضارية في التعاطي مع الأحداث.

ومن هنا كان لا بد من تسليط الضوء على مسار الأحداث للوقوف على حصيلة سنة كاملة من التجاذبات، قد تؤسس لنموذج منقَّح يجمع بين التعبير الاحتجاجي الثوري والممارسة الاحتجاجية المساعِدة على منح فرصة لإصلاح النظام.

انتصار بطعم الانكسار
أيُّ مراقب موضوعي لما جرى -منذ 22 فبراير/شباط 2019 وحتى الساعة- لن يتردّد في توصيف ما تحقق إلى حد الآن بالانتصار، إلا أن ما يُشعِر البعض بالانهزام والانكسار هو ربط المنجَز بالمتوقَّع الذي تجاوز سقف الموضوعية والقابلية للتحقيق، والمتمثِّل في تصور إمكانية تغيير النظام بهذه السهولة.

فقد شكّل ذلك نوعا من الطوباوية والرومانسية في التعاطي مع الواقع، إلا أنه وُظّف لدفع ورفع ديناميكية الشارع لإنتاج حراك بزخم ثوري ظاهريا وفعل إصلاحي وظيفيا. ولذلك كان الالتباس حاضرا بشكل دائم بين السقف الثوري والسقف الإصلاحي.

أما اليوم وبعد الحسم السياسي الجزئي من قبل السلطة؛ فقد وجدنا أنفسنا أمام مشهدٍ أكثر وضوحا وأكثر قابلية للتعاطي مع الفعل السياسي المشارك، بعد مرحلة الفعل السياسي الرافض والمُقاطِع.

ويكفينا إنجازا مرحليّا أنّ الحراك أخرج الجزائريين من حالة الركود القاتل، والأمل الغائب والنفسية الانهزامية، والمشهد السياسي والمجتمعي المفبرَك، ليُدخلنا إلى واقع متحرك وهوامش حقيقية للتغيير قابلة للتوسع والاستثمار، لتتحوّل تدريجيا إلى مقدمات جادة لتغيير النظام.

صحيح أن الحراك فشل في تملّك أدوات التغيير من داخل النظام بتحرير المؤسسات والسلطات، إلا أنه نجح بامتياز في تفعيل وتوظيف أدوات التغيير من خارج النظام، وعلى رأسها الشارع ونفسية المُواطن وشبكات التواصل.. إلخ.

ولعلّ أهم منجَز للحراك الشعبي هو كونه تسبّب في تكسير النظام، في اللحظة التي ارتبكت فيها النخب الحاكمة واختلفت حول طبيعة التعامل مع الحراك؛ فكان الصدام الداخلي لأجنحة النظام مما أدى لتكسير استقرار السلطة، تكسيرا تجسّد من خلال حملة اعتقالات لم يشهدها تاريخ الجزائر الحديث.

فقد اعتُقل رئيسا وزراء سابقان، وقادة مناطق عسكرية، وأسطورة جهاز المخابرات الجنرال المتقاعد "توفيق مدين"، ومئات من أكبر المسؤولين والوزراء ورجال الأعمال في الجزائر، بالإضافة إلى قادة التحالف الرئاسي الذي كان يمثّل تكتل الأحزاب السياسية الحاكمة، ورؤساء أحزاب سياسية.

وبالتالي؛ فقد دفعت صدمة الحراك النظام -لأول مرة- إلى أن يضحي بأبنائه، بعدما كان نفس النظام يعيّن المغضوب عليهم سفراء، أو يحوّلهم إلى مجلس الأمة، أو يمنحهم صفة مستشارين. وفي كل الحالات؛ فإن أشدّ أنواع العقاب هو إبعادهم من مركز القرار، مع إبقاء امتيازات الاستفادة من الريع من رحم مؤسسات النظام.

هذا التوجّه شكّل نقلة نوعية في مسار تفعيل ديناميكية التغيير، لأنّ الجناح المتحكّم في النظام عنْوَن عملية التطهير لإرضاء الحراك على الأقل ظاهريا بشعار مكافحة الفساد والقضاء على العصابة الحاكمة.

هذا الشعار لم يكن الجزائريون يحلمون به كاعتراف من قلب النظام، على أنّ الأساطير والروايات -التي كانت تسوّق في حديث العامة عن حجم الفساد والتسيّب والدمار المتغلغل في مؤسسات الدولة وجسم النظام- أصبحت حقيقة تنطق بها النخب الحاكمة وتؤكّد عليها في كل مرة، وهو ما أضفى شرعية -لا غبار عليها- على حجيّة مطالب الحراك وأنه الإجابة الطبيعية لحجم الخيانة والفساد. كما أن القدرة على التعبئة والتجنيد لمدة سنة كاملة -رغم كل المحاولات من قبل النظام لتمزيق الحراك- لم تستطع توقيف دورانه.

وقد كان لحضور النماذج الرادعة لثورات الربيع العربي وتجربة التسعينيات الدامية في الجزائر دورٌ مهمّ في رفع سقف وعي الحراك بحتميّة الالتزام بالسلمية، وسدّ كل أبواب سحب الحراك إلى المعادلات الأمنية بكل أشكالها. ويؤكد ذلك أن شعارات الحراك ركّزت -منذ الوهلة الأولى- على رفض السيناريو السوري القاضي بالدمار والسيناريو المصري المؤدي للعسكرة السياسية للحكم.

عثرات أثناء الحراك
جزء كبير من الجزائريين الذين خرجوا للحراك لم يكونوا جاهزين لهذا الرهان، ووجدوا أنفسهم فجأة أمام تحدي تغيير النظام بعدما كانوا يتمنّون فقط استبدال الرئيس المريض برئيس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، لأن النظام الجزائري يتمّيز عن غيره من الأنظمة العربية بكونه أقرب للنظام الدكتاتوري المفتوح الذي يفضّل الاستبداد الناعم على القمع الخشن.

فقد حكم بالتسيّب عوض أن يحكم بالعنف، وحكم برشوة المجتمع الفردية والفئوية، واعتمد منظومة الفساد القائمة على توزيع الريع وتوسيع دائرة الفساد عوض القهر، واجتهد في رفع جاهزيته للمؤسسات الأمنية بتكثيف أعدادها وتجهيزاتها دون الحاجة لاستعمالها؛ بل بالعكس عمل على تحسين العلاقة بين المجتمع والمؤسسات الأمنية.

ومن هنا كاد الاعتراض على النظام الجزائري أن يتحوّل إلى حالة كماليّة، لأن جزءا كبيرا من الجزائريين تورّطوا مع فساد النظام وأصبحوا ينتجونه بشكل غير مباشر. ولهذا وجدنا اليوم الاعتراض على النظام بتنظيم مسيرات يوميْ الجمعة والثلاثاء، وعدم متابعته بحراك فئوي أثناء سائر الأيام المتبقية، وكأن المواطن يعترف بتواطئه مع النظام وعدم ثقته في مرحلة التغيير الحالية، ورغبته الملحّة في إنتاج تغيير يفضي لواقع أفضل دون تضييع المكتسبات الحالية للأفراد.

ولعلّ أهم معوقات إنجاح الحراك يمكن تلخيصها فيما يلي:
- تضخيم قوة الحراك في مقابل استصغار قوة النظام.
- الرفض المبدئي والدائم لفكرة تأطير الحراك بسبب الخوف من احتواء قياداته.
- القفز على النضال السابق للكثير من الشخصيات والمنظمات بعدم الاعتراف بالأولوية والأسبقية في النضال، وكأن المشهد الحركي والثوري وُلد فقط ابتداء من تاريخ 22 فبراير/شباط.
- الشعبويّة المفرطة التي عقّدت وأقصت خطاب العقلانية وأظهرته بمظهر خطاب الجبناء والراكنين إلى جبروت النظام.
- عدم التحكّم الوظيفي في شعارات الحراك، مما استدعى -أحيانا كثيرة- الحالة الانقسامية، وزرع التوجّس والشك بين مكونات الحراك ومرجعيات الأفراد الأيديولوجية.

- الفشل في معركة الأدوات والتركيز على معركة الشعارات مع النظام؛ فبينما كان النظام يركّز على التحكم في أدوات السلطة على كل المستويات، من سلطات تنفيذية ومؤسسات حكم ومؤسسات إعلامية؛ اشتغل الحراك وأبدع في معركة الشعارات والإقناع دون أن ينجح في نقل الأفكار إلى التجسيد في الميدان، ليكتشف -بعد حين- أنّ تحقيق التغيير يحتاج إلى موافقة النظام، أي الانتقال الذهني من الحالة الثورية إلى الحالة الإصلاحية.

- كما أنّ الحراك تشكّل في حالة من ردود الأفعال لقرارات ومخرجات النظام ولم يستطع الانتقال من مستوى المبادرة، لينحصر في كتلة من الرفض والاعتراض لمشاريع النظام.

وبالتالي؛ فإنه يمكننا -بعد سنة من الحراك- أن نتحدّث عن تراجع الحلم بالتغيير لصالح حتمية إنجاز التغيير، فيوما بعد يوم نكتشف حقيقة الأشياء في الجزائر، فعام من الحراك يعد بمثابة فترة لإجراء التحاليل التي خضع لها النظام والشعب قرابة سنة، وكان من أهم نتائجها مساءلة السلطة والمؤسسات الأمنية، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية والحزب والنقابة والمجتمع المدني والنخب... إلخ، وإخضاع الجميع لتحقيق مرير انتهى نسبيّا بكشف حجم التأزيم على مختلف المستويات.

والأكيد أيضا أن السلطة استطاعت نقل السياق من الهبّة الثورية إلى الرواق الإصلاحي الضيق، مما عُدّ نجاحا للسلطة وفشلا للحراك، عندما عجز عن تعطيل إجراء الانتخابات الرئاسية التي خلقت واقعا سياسيا جديدا وأراحت نسبيا النظام. ولكن -من الزاوية الأخرى لإيجابية مسار التدافع- نحتاج أحيانا إلى شيء من الفشل والإخفاق للوقوف على حقيقة الأشياء، لأنّ منطق الأشياء يقتضي أن ينتصر القوي في معركة الأدوات على القوي في معركة الشعارات.

ماذا ينتظر الحراك؟
العام الثاني للحراك الشعبي لن يكون بمثل ثقل العام السابق، الذي استفاد فيه الحراك من عامل المفاجأة والصدمة التي تعرّض لها النظام، ومن الانقسام الحاد داخل مراكز السلطة واتخاذ القرار مما أدى نسبيا إلى تكسيره.

ومن هنا؛ سيجد الحراك -في عامه الثاني- الكثير من التحديات، من أبرزها استرجاع النظام للمبادرة خاصة بعد تمرير الانتخابات الرئاسية، وحل مشكل الشرعية الدستورية التي أطلقت يد النظام للاستثمار في وعاء الحراك، وامتصاص جزء من مكوناته كأفراد وجماعات.

كما أن السلطة تجاوزت تهديد التغيير الكلي والراديكالي، وبات الحراك اليوم يتّجه تدريجيا للتحوّل إلى كتلة ضاغطة غير مؤطَّرة، تعمل على تعطيل مشاريع النظام والتشويش على إستراتيجياته. فموارد الحراك تراجعت والبيئة المنتجة للفعل الاعتراضي لم تعد بتلك الدافعية.

ويكفي أنّ السلطة اليوم تبنّت خطاب الحراك ومطالبه إلى درجةٍ لم نعد نفرّق معها بين خطاب النظام وخطاب الحراك، وهو ما قلّص قدرة الحراك على التعبئة بالكلمات والشعارات، وأصبح أقرب للتعبير عن ردود أفعال على ما يصدر عن النظام.

من هنا فقَدَ الحراك -منذ فترة- القدرة على المبادرة لأن السلطة اجتهدت في منعه من اكتساب أدوات التأثير، وعملت -بشكل دائم- على تقليص مساحات التأثير بما فيها التجمّعات والمسيرات وآليّات التعبير المختلفة، بما في ذلك ممارسة الضغط والغلق على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي.

ويبقى أمام الحراك استغلال فرصة عدم ترتيب بيت النظام، وحاجته الملحّة للاستعانة بجزء منه لبعث تغييرات محسوسة ومهمة، ولكنها لا ترتقي إلى مستوى تغيير النظام. وهذا التوجّه سيساعد على إنشاء أُطُر من رحِم الحراك بشكل فئوي للمشاركة في تغيير النظام من داخل النظام.

فالحراك الشعبي يحتاج -في مستوى تطلعاته- إلى نخب قيادية ناضجة تقوده نحو تحقيق الإنجاز، عوض أن تتحوّل إلى مجرد صدى لما يُردَّد في الساحات. وأعتقد أنّ شروط التحوّل الديمقراطي في غالبيتها جاهزة تنتظر من يستثمرها، ويحوّل الهوامش إلى واقع يتحسّن باستمرار، وهذا لن يتأتّى إلا بقيادة قادرة على إنتاج المعنى واستباق الأحداث وقراءة التوازنات، وتجميع الموارد والمهارات والطاقات وبناء الإستراتيجيات.

وباختصار: لن يتغيّر النظام؛ بل سيعدّل نسخته الاستبدادية بشكل يجعله أكثر تقبّلا عند الكثير من الفئات الاجتماعية، ولن يتغيّر سلوك المواطن نحو الأحسن على المستوى القصير والمتوسط، لأنه سيبقى مترددا ولن يثق في طبيعة المرحلة؛ مما سيدفعه للمحافظة على مكتسباته السابقة.

وتدريجيا؛ سينتقل الحراك من طابع الاعتراض المجتمعي إلى طابع الاعتراض السياسي، بحيث سيقتصر المشاركون مستقبلا على المجتمع السياسي المؤثّر وغير المهيكل، وسينسحب الذين لا يهتمّون بالسياسة؛ لأنّ السياق القادم يحتاج إلى نفَس طويل في ظلّ غياب رهانات كان يتغذّى منها الحراك في عامه الأول.
سياسة | المصدر: الجزيرة | تاريخ النشر : السبت 22 فبراير 2020
أحدث الأخبار (سياسة)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com