
يتنقل مرض الكوليرا من ولاية إلى أخرى في السودان منذ انتشاره لأول مرة في ولاية القضارف، في منتصف عام 2024، وبينما أرقام الإصابات متباينة، إلا أن تردّي الواقع الصحي يفاقم التفشّي.
يشهد السودان تفشياً خطيراً لمرض الكوليرا امتد إلى جميع الولايات، وأسهم النزوح المتكرر لآلاف السكان، وانهيار القطاع الصحي وإغلاق المستشفيات، وتدمير البنية التحتية بما فيها شبكات مياه الشرب والصرف الصحي، في انتشار المرض، وصعوبة السيطرة عليه.
ووفق إحصائيات وزارة الصحة الاتحادية التي ينحصر نطاق عملها في المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني، بلغ عدد الإصابات بالكوليرا 102.831 إصابة، من بينها 2561 وفاة منذ يوليو/ تموز 2024، بينما تفيد مصادر طبية بأن العدد الحقيقي لضحايا الكوليرا أكبر من ذلك بكثير، ويتوزع على كل ولايات البلاد.
ويفيد مصدر من نقابة أطباء السودان بأن العدد الحقيقي لضحايا الكوليرا يتجاوز 325 ألفاً في أنحاء البلاد. وقال المصدر الذي طلب عدم كشف هويته لـ"العربي الجديد" إن "انهيار القطاع الصحي الذي كان يعمل بالحد الأدني قبل الحرب، جعل من مكافحة الكوليرا أمراً عسيراً، ويتزامن ذلك مع تلوث مياه الشرب، والتردي البيئي العام، وحالة النزوح المستمرة بين الولايات، وعدم منح الصحة أي أولوية منذ اندلاع الحرب".
ورغم إعلان السلطات الصحية انتهاء المرض في المناطق التي تخضع لسيطرة الجيش السوداني، إلا أن عدداً من الإصابات سجلت خلال أغسطس/آب الماضي وسبتمبر/ أيلول الحالي في عدة مناطق، بما فيها العاصمة الخرطوم.
في 18 سبتمبر الحالي، لقيت السودانية عبير عبد الله (38 سنة) حتفها في حي الصالحة جنوبي العاصمة، متأثرة بإصابتها بإسهال مائي استمر يومين. ويقول زوجها عثمان سالم لـ"العربي الجديد": "أصيبت زوجتي بأعراض الكوليرا، وظلت تعاني من الإسهال وفقدان السوائل إلى أن توفيت تاركة لي طفلين، أكبرهم عمره ثماني سنوات. كانت زوجتي تتلقى العلاج في مركز صحي بالحي لعدم وجود مراكز عزل لمرضى الكوليرا في مستشفيات الخرطوم، وغالبيتها مزدحمة بمرضى حمى الضنك والملاريا والحميات الأخرى التي تنتشر بصورة غير مسبوقة".
وتفشت الكوليرا في الخرطوم على نطاق محدود خلال عام 2024، وخصوصاً بالمناطق التي كانت تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع في جنوب العاصمة، لكنها تفشت بصورة لافتة في مطلع العام الجاري. بيد أن المرض أصاب الآلاف في ولايات الجزيرة وسنار والقضارف والنيل الأبيض وكسلا.
في الثلاثين من أغسطس الماضي، ظهرت حالات الكوليرا في قرية قلسا، ومناطق أخرى بولاية كسلا على الحدود الإريترية، وأفاد مصدر طبي من المنطقة، بتسجيل 350 إصابة في غضون شهر واحد، وقال المصدر الذي طلب عدم ذكر هويته لـ"العربي الجديد": "سلطات كسلا الصحية عاجزة عن مواجهة المرض بسبب ضعف البنية التحتية، ونقص الأدوية، إضافة إلى محدودية قدرات العزل، أو القدرة على تطهير مصادر المياه، ما يجعل انتشار الكوليرا سريعاً، خصوصاً مع استمرار هطول الأمطار، وارتفاع مناسيب الفيضانات، وصعوبة الحصول على مياه الشرب النقية، ومن غير المستبعد أن يتفاقم الوضع إذا لم يتم التدخل العاجل من قبل المنظمات الإنسانية".
بدورها، قالت إدارة الطوارئ الصحية ومكافحة الأوبئة بوزارة الصحة في ولاية كسلا، في بيان، إن "عدد الإصابات بالكوليرا بلغ 395 إصابة، من بينها سبع وفيات.
وبينما تشير إدارة الطوارئ إلى عدم تسجيل إصابات جديدة بالكوليرا في كسلا، يقول الناطق باسم شبكة أطباء السودان، محمد فيصل، لـ"العربي الجديد": "تشهد ولايات شرق السودان خلال الأسابيع الماضية زيادة حادة في أعداد المصابين بالكوليرا، وذلك بسبب الفيضانات التي تسببت في تلوث مياه الشرب، واكتظاظ المنطقة بالنازحين، ما أدى إلى ضغوط هائلة على النظام الصحي الذي كان يعاني من الهشاشة بالأساس".
ويعزو فيصل أسباب انتشار الكوليرا في كل الولايات إلى التلوث الكبير في مياه الشرب، ويوضح: "التفشي واسع في إقليم دارفور وبعض مناطق كردفان، والأوضاع سيئة للغاية، وما ينقل عن تفشي الكوليرا لا يمثل كل الحقيقة، فنحو 80% من مستشفيات إقليم دارفور خارج الخدمة، ويتكرر استهداف الكوادر الطبية، كما ينعدم الدواء، ولا تتوفر مراكز عزل، مع تفشي أمراض أخرى مثل حمى الضنك والملاريا".
من مدينة المناقل بولاية الجزيرة (وسط)، تصف الناجية من الكوليرا، هاجر أدم، معاناتها مع المرض بـ"العصيبة"، وتقول لـ"العربي الجديد": "في مايو/ أيار الماضي، نُقِلت إلى مستشفى المدينة، لكن بسبب ارتفاع أعداد المصابين، اضطررت إلى العودة إلى المنزل، حيث عُزِلت عن بقية أفراد الأسرة، وتولى طبيب من الجيران توفير المحاليل الوريدية والأدوية، وبعد ثلاثة أيام أصبحت قادرة على تناول بعض المشروبات الدافئة. لو بقيت في المستشفى لفارقت الحياة بسبب تردي الخدمة الطبية المقدمة للمرضى، والزحام الشديد بسبب النقص الكبير في الأسرة وغرف العزل".
من جانبه، أعلن مركز عمليات الطوارئ التابع لوزارة الصحة الاتحادية، تسجيل 1194 إصابة جديدة بالكوليرا خلال أسبوع واحد في 13 ولاية من مجمل ولايات السودان الثماني عشرة. وقال المركز في تقرير نشره في 23 سبتمبر الحالي، إن "أكثر الولايات المتأثرة بالكوليرا هي جنوب كردفان، وشمال دارفور، وشمال كردفان، والنيل الأزرق، ووسط دارفور على الترتيب".
وتشهد بعض الولايات المذكورة عمليات عسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتفرض الأخيرة حصاراً خانقاً منذ نحو عام ونصف العام على مدينة الفاشر، كبرى مدن إقليم دارفور، في حين تمكن من السيطرة على ولاية غرب كردفان، وأجزاء واسعة من ولايتي شمال وجنوب كردفان، ما أدى إلى إغلاق المستشفيات، وتعطيل سلاسل نقل الدواء.
في المقابل، أعلنت وزارة الصحة المحلية بولاية جنوب دارفور، أن عدد الإصابات بالكوليرا المسجلة في الفترة بين 27 مايو الماضي و22 سبتمبر الحالي، بلغ 5361 إصابة، من بينها 258 وفاة. وقال مدير إدارة الطوارئ بالولاية، عباس حسن، لـ"العربي الجديد": "عدد الإصابات في زيادة مستمرة يومياً، وسجلت بعض المحليات أكثر من ألف إصابة منذ تفشي المرض، وعدد الإصابات في محلية نيالا جنوب تجاوز 1373 إصابة، وفي نيالا شمال سُجلت 1301 إصابة".
وفي شمال إقليم دارفور، تجاوز عدد الإصابات 13.056، من بينها 551 وفاة منذ يوليو الماضي وحتى 23 سبتمبر الحالي. يقول المتحدث باسم منسقية النازحين واللاجئين، آدم رجال لـ"العربي الجديد": "تفشي المرض يتزايد يومياً في المخيمات المكتظة بالنازحين الذين فروا من مناطق القتال، وفي مُدن وقرى الإقليم التي توقفت المستشفيات فيها عن العمل، وانعدمت فيها الأدوية".
ويشير رجال إلى أن "مناطق جبل مرة الواقعة خارج سيطرة الجيش السوداني، والتي تخضع لسيطرة حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، من بين المناطق الأكثر تضرراً بالكوليرا، إلى جانب مخيمات النازحين في جنوب ووسط الإقليم، حيث وصل عدد المصابين إلى مستويات قياسية. في ظل نقص الإمدادات الطبية والمحاليل الوريدية في معظم المناطق المتضررة، تبذل المنظمات الإنسانية ومتطوعون محليون مع غرف الطوارئ والسلطات المحلية جهوداً جبارة لمكافحة المرض، ولا تزال هناك صعوبات وتحديات كبيرة نتيجة تزايد معدلات الإصابة، إضافة إلى انتشارالملاريا، وسوء التغذية، ما يهدد حياة الناس، ويمثل كابوساً إنسانياً".
وظلت الكوليرا التي يمكن الوقاية منها وكذا علاجها تنتقل خلال العامين الماضيين من منطقة إلى أخرى في السودان، وذلك بسبب ضعف القدرة على مكافحتها. من ولاية جنوب كردفان، يقول الطبيب محمد الأمين لـ"العربي الجديد": "لم يسبق أن استوطنت الكوليرا بهذه الطريقة في السودان، وضعف الخدمات الصحية والتردي البيئي وحالة النزوح المستمرة تساهم في تفشيها بصورة غير مسبوقة، ما يجعلها تحصد أرواح المئات. رغم تفشي الكوليرا في مناطق عديدة، ما زالت الأدوية والمحاليل الطبية شبه معدومة، وكثير من المناطق لا يمكن الوصول إليها إما بسبب الحرب، أو لوعورة الطُرق، والتي تأثرت بالسيول والأمطار، ما يجعل المرض يتفاقم".