Akhbar Alsabah اخبار الصباح

ماذا وراء الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا؟

الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا كان "داوود فاي" (25 عاما) غارقا في التفكير في أيامه التي امتدت لأكثر من عام قضاه في العاصمة المغربية الرباط. فبعد عناء، تمكَّن داوود، المهاجر السنغالي غير الشرعي، أخيرا من أن يحط قدميه في هذا البلد الذي يُعَدُّ نقطة انطلاق للمهاجرين واللاجئين القادمين من شمال أفريقيا وغربها نحو قارة أوروبا. أدرك فاي مدى صعوبة البقاء هنا، ومدى متانة الحراسة المغربية على أرض تُشكِّل العقبة الأخيرة في رحلته الشاقة التي يخوضها نحو الشمال. بيد أنه في منتصف مايو/أيار الماضي، وبينما أطلق العنان لحلمه بأن تطأ قدماه العاصمة الفرنسية باريس من أجل الدراسة الجامعية، سمع ما لم يُصدِّقه في البداية. لقد سمح حرس الحدود المغربي بنفسه في تلك اللحظة تحديدا بدخول المهاجرين إلى "سبتة"، المدينة الصغيرة المُحتلَّة والمُسيَّجة من جانب إسبانيا على الساحل الشمالي للمغرب، التي تُمثِّل اليوم جيبًا أوروبيًّا على سواحل القارة الأفريقية المُطِلَّة على المتوسط.

تَواصل داوود، كما يروي في حوار له مع صحيفة "نيويورك تايمز"، مع مجموعة من الشباب أصرُّوا على النوم على شاطئ سبتة للبقاء عند أقرب نقطة من "أوروبا"، وعرف منهم أن جنود حرس الحدود المغاربة نادوا عليهم قائلين: "تعالوا يا شباب"، ثم قدَّموا لهم نصائح حول آلية العبور، بل ووصفوا لهم الطريق الصحيح نحو الجزيرة، سامحين -على غير العادة- بدخول المهاجرين المغاربة والأفارقة إلى الجيب الأوروبي. بالطبع، اجتاح الشباب المدينة التي يبلغ عدد سكانها 80 ألف شخص، ولم يتردَّد داوود البتة في حزم أمتعته المحدودة واصطحاب جواز سفره وجهاز الحاسوب الخاص به ثم ركوب سيارة أجرة نحو نقطة قريبة من الحدود. بعد ذلك بقليل، تمكَّن الشاب السنغالي من الدخول سابحا مع أكثر من 6000 شخص من المغرب إلى سبتة المجاورة.

في الأيام التالية، تدفَّقت أمواج من البشر إلى الجيب الحدودي مُستخدمين حلقات وقوارب مطاطية للوصول إلى بر الأمان، وعلى الجهة الأخرى بدأت تعبئة الوحدات العسكرية الإسبانية لاستعادة النظام في مواجهة المئات من اللاجئين في المياه، حيث قبعت عائلات كاملة وأطفال دون العاشرة من العمر، نصفهم من المغاربة. تكدَّس المهاجرون في نهاية المطاف بالآلاف في مستودعات ومرافق المدينة غير الملائمة، أو فرُّوا إلى الحدائق. لم يكن المشهد عشوائيا بالدرجة نفسها من الناحية السياسية، ففي بروكسل والرباط بدت الأمور منطقية في زمن أصبحت فيه ورقة اللاجئين سلاحا من العيار الثقيل. وقد استخدمها المغرب ببساطة مقابل انتزاع تنازلات مالية، فالمغرب الذي تلقَّى بالفعل ما يُقدَّر بنحو 13 مليار يورو من أموال التنمية من الاتحاد الأوروبي منذ عام 2007 مقابل ضوابط صارمة على الحدود، يسعى لمزيد من التحويلات المالية هذا العام، والأهم أنه يريد دفع الدول الأوروبية للاعتراف بمطالبه في السيادة على الصحراء المغربية.

في سبيل تحقيق طموحاتها كسب المزيد من الاعتراف بسيادتها على الصحراء المغربية، وافقت الرباط على تطبيع العلاقات مع إسرائيل العام الماضي مقابل اعتراف الولايات المتحدة بسيادتها على الصحراء، لتصبح أميركا أول دولة غربية تُقِرُّ السيادة المغربية على الإقليم وتفتح قنصلية بمدينة الداخلة. تحت إدارة ترامب العصيبة إذن، انتزع المغرب مكسبا سياسيا مهما، بعد معاناة الدبلوماسية المغربية لسنوات في ظل اعتراف نحو 50 دولة، بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقي، بسيادة الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (البوليساريو)، على الإقليم. وكانت الرباط، العضو في الاتحاد الأفريقي منذ عام 1984، قد انسحبت من الاتحاد في السابق دون تردُّد؛ غضبا من موقف المنظمة من قضية الصحراء الغربية، قبل أن تعود إلى الاتحاد من جديد عام 2017، بعد قطيعة تجاوزت ثلاثة عقود.

في المحصلة، شكَّل الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء نقطة تحوُّل كبيرة في الطموحات المغربية دوليا، وذهبت أنظار الرباط بعدئذ نحو مدريد التي وُصِف موقفها من هذا الاعتراف الأميركي بالغموض، مما أثار غضب دوائر السلطة في الرباط. ومن ثمَّ رفض المغرب دعم مطالب إسبانيا تجاه قضية إقليم كتالونيا الذي يُطالب بالانفصال عن إسبانيا، ووصلت الأمور إلى حد حديث رئيس الحكومة المغربية، "سعد الدين العثماني"، عن إمكانية فتح ملف سبتة ومليلة -المدينتين المغربيتين المحتلتين من قِبَل إسبانيا- يوما ما، وهو ما أثار غضب مدريد.


وبينما كانت الرباط تنتظر اعتراف المزيد من دول العالم بسيادتها على إقليم الصحراء الغربية، جاءتها أنباء سيئة بعد وصول "إبراهيم غالي"، زعيم جبهة البوليساريو وعدو الرباط الأول، إلى إسبانيا على متن طائرة طبية خصَّصتها له الرئاسة الجزائرية وبحوزته جواز سفر دبلوماسي من أجل العلاج. وقد سجَّل يوم وصول غالي الأراضي الإسبانية في 18 إبريل/نيسان الماضي نقطة تحوُّل كبيرة في الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا، التي أكَّدت أنها استقبلت زعيم الجبهة لأسباب إنسانية لا أكثر، إذ وصل غالي في وضع حرج بسبب إصابته بفيروس كورونا المستجد.

"إبراهيم غالي" زعيم جبهة البوليساريو
اعتبرت السلطات المغربية إدخال غالي إلى دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، خاصة إذا كانت هذه الدولة هي إسبانيا القوة الاستعمارية السابقة في الصحراء الغربية، "قرارا عدائيا للغاية"، وشعرت بأن مطالباتها بالسيادة على الصحراء بدأت تخضع للتشكيك مجددا بعد دفعة ثقة منحها الاعتراف الأميركي. ولذا، لم تتردَّد الرباط كثيرا في الانتقام، ففتحت حدودها مع سبتة -كما أسلفنا- بعد أن خفَّضت عمدا عدد قوات الحراسة في المدينة الساحلية لإغراق المنطقة بالمهاجرين، حيث تُظهِر الأرقام أن تدفُّق المهاجرين إلى سبتة زاد عدد الوافدين بأكثر من الضِّعْف مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020.


حاولت إسبانيا أن تُحافظ على موقفها الظاهري بالحياد في قضية الصحراء المغربية، فاستجابت لدعوتين طالبتا بمحاكمة غالي في محاكمها، أولاهما تقدَّم بها "فاضل بريكة"، حامل الجنسية الإسبانية المنشق عن جبهة البوليساريو، الذي اتهم غالي بالضلوع في عمليات "تعذيب" داخل مخيمات اللاجئين الصحراويين في تندوف، في حين تقدَّمت بالثانية الجمعية الصحراوية للدفاع عن حقوق الإنسان ومقرّها إسبانيا، متهمة الرجل بارتكاب جرائم "الإبادة الجماعية" و"الإرهاب" و"التعذيب" و"الإخفاء القسري".

بالفعل، مثل غالي للتحقيق أمام القضاء الإسباني للتحقيق في شبهات ارتكاب أعمال تعذيب وإبادة جماعية، وأُجري عبر تقنية الفيديو من مستشفى لوغرونيو الواقع في شمال إسبانيا حيث يُعالَج. بيد أن الجلسات المغلقة انتهت دون أي إجراء ضد غالي، حيث اعتبر أحد قضاة المحاكم الوطنية العليا في مدريد أن الادعاء لم يُقدِّم أي أدلة تُثبت مسؤولية الرجل عن أي جريمة، وفي الثاني من يونيو/حزيران الحالي، أي بعد قضائه 41 يوما في أحد مستشفياتها، غادر غالي إسبانيا نحو الجزائر على متن طائرة فرنسية دفعت الجزائر ثمن تحرُّكها.

خلال ما يُعرف بـ "مؤتمر الكونغو" عام 1884، قُسِّمت معظم أنحاء أفريقيا بين القوى الاستعمارية الأوروبية، ومنذ ذلك الوقت وقعت الصحراء تحت سيطرة إسبانيا. لكن مع انسحاب المُستعمِر القديم من المنطقة عام 1976، طالب كلٌّ من المغرب وموريتانيا باقتسام السيطرة على المنطقة، بيد أن موريتانيا تخلَّت عن هذا المطلب لاحقا، فيما ثبّت المغرب نفوذه في معظم مساحة الإقليم فعليا، مستندا إلى اعتبارات تاريخية وثقافية يُعَدُّ بموجبها الإقليم جزءا لا يتجزأ من المغرب.


ولكن السيطرة المغربية على الصحراء لم تبقَ دون تحدٍّ. وفي عام 1973، تأسَّست الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب المعروفة باسم "البوليساريو" بهدف إقامة دولة مُستقلة في الصحراء الغربية، وأطلقت الجبهة على المنطقة اسم "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، وهو ما رفضه المغرب بادئا نزاعا مسلحا مع الجبهة عام 1975 لم ينتهِ إلى اليوم. ففي حين يقترح المغرب الذي يسيطر على ثلثي هذه المنطقة الصحراوية منحها حكما ذاتيا تحت سيادته، تُطالِب البوليساريو المدعومة من الجزائر بإجراء استفتاء حول تقرير المصير أقرَّته الأمم المتحدة أملا في أن يُفضي إلى استقلال الإقليم تماما. ورغم أن المجتمع الدولي نجح في التوصُّل إلى وقف إطلاق النار بين الجانبين عام 1991، فإن أعمال القتال عادت في أواخر العام الماضي، عندما أقدمت السلطات المغربية على تنفيذ عملية على الحدود الجنوبية للصحراء الغربية، بهدف وضع حدٍّ لـ "استفزازات" جبهة البوليساريو، كما أشارت الحكومة.

فيما يتعلَّق بموقف إسبانيا بشأن الصحراء الغربية على وجه التحديد، سعت مدريد إلى النأي بنفسها إلى حدٍّ كبير عن هذا النزاع، إدراكا منها للتأثير المُحتمل الذي يمكن أن ينعكس على علاقاتها التجارية والأمنية المُتشعِّبة مع المغرب. وفيما يريد المغرب الآن من إسبانيا موقفا أكثر تعاطفا بقضية الصحراء الغربية، تتمسَّك مدريد بموقفها، في ظل عدم وجود تسوية نهائية من قِبَل الأمم المتحدة، التي تُصنِّف الصحراء ذات المليون نسمة بأنها "إقليم غير مُتمتِّع بالحكم الذاتي".

في ضوء ذلك، بات المغرب يرى أن النظام في إسبانيا صار منحازا دبلوماسيا لخدمة ما يُسميه بـ "المشروع الانفصالي" للجبهة، بل إن الرباط ترى أن الجار الإسباني لا يزال ينظر للعلاقة مع المغرب على أنها علاقة إملاءات من طرف وانصياع من طرف آخر دون مراعاة مبدأ السيادة المتبادلة، وهو أمر تُعزِّزه بالطبع الخلافات حيال سبتة ومليلة.

بيد أن تطوُّرات الأزمة بين البلدين لم تتوقَّف عند فتح الحدود من أجل تدفُّق اللاجئين نحو سبتة، بل زاد الخوف من أن تطول نيرانها العديد من الاتفاقيات والتفاهمات بين البلدين، ومنها، على سبيل المثال، اتفاق الصيد البحري، وهو اتفاق يسمح لـ 90 قاربَ صيدٍ إسبانيًّا باستغلال السواحل المغربية وفق بروتوكول يتجدَّد كل أربع سنوات. كذلك، وفي تصعيد غير مُعلَن، تحدَّثت صحيفة إسبانية عن أن المغرب قرَّر إنهاء المفاوضات بشأن تجديد امتياز خط أنابيب غاز من المقرر انتهاؤه في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ينقل الغاز الجزائري إلى إسبانيا عبر الأراضي المغربية، ما يُعَدُّ تصعيدا غير مسبوق في العلاقات بين البلدين.

على بُعد نحو 300 متر فقط من الشواطئ المغربية، وقبل يوم من محاكمة زعيم جبهة البوليساريو، أجرت إسبانيا مناورات وتدريبات، نشرت منها البحرية الإسبانية مقطعا مُصوَّرا لعملية إمداد رأسية بين السفينة المساعدة "مار كاريبي" (ميناؤها الرئيسي هو قاعدة قادس) والحامية الصغيرة المتمركزة في جزيرة النكور المحتلة الواقعة وسط خليج الحسيمة. في الأوقات الطبيعية كان من الممكن النظر لهذه المناورات باعتبارها إجراءات تقليدية، لكن المغرب نظر إليها هذه المرة نظرة مختلفة، ورأى أنها مُوجَّهة ضده في المقام الأول. وكما قال "محمد الطيار"، المتخصص في الشأن الإستراتيجي والعسكري، في تصريح لموقع "هسبريس" المغربي: "أظهرت إسبانيا أنها مستعدة للتخلي عن التعاون مع المغرب في المجالات الأمنية وفي ملف الهجرة غير النظامية والمجالات الاقتصادية، في مقابل التمسُّك بالمشروع الانفصالي".

لربما تكون التخوُّفات المغربية في محلها، حيث يبدو أن مدريد تشعر بشيء من الريبة تجاه خطط المغرب لإعادة التسلح، خاصة بعد اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء، على اعتبار أن ذلك يُمثِّل تحديا لوحدة الأراضي الإسبانية وللمصالح الاقتصادية الأوروبية، وكذلك لأن نفوذ الرباط المتزايد يقوِّض النفوذ الذي تحتفظ به إسبانيا وفرنسا على المنطقة المغاربية، وقد ترجمت مدريد غضبها برفض المشاركة في مناورات "الأسد الأفريقي 2021" (الأكبر في أفريقيا)، التي جرت في المغرب بين 7-18 يونيو/حزيران الجاري، بمشاركة 8 دول، من بينها الولايات المتحدة وبريطانيا.

بينما تتعاظم تدريجيا قوة المغرب الإقليمية في منطقة الصحراء الكبرى، وتتزايد طموحاته وثقته بموقفه بعد الاعتراف الأميركي، يبدو أن إسبانيا، نقطة الاشتباك بينه وبين القارة الأوروبية، والبلد صاحب العلاقات المُتشعِّبة معه من جهة، والمُستعمِر السابق الذي لا يزال يسيطر على جيبَيْ سبتة ومليلة على شواطئه من جهة أخرى، سيكون البلد الأوروبي الأهم في العلاقات بين الرباط وبروكسل، لا سيما في ظل حضور ورقة اللاجئين، ولعبها دورا محوريا في الغرب بشكل لا يقل عن ذلك الذي لعبته في اشتباك تركيا مع الاتحاد الأوروبي في الشرق. والأيام القادمة وحدها ستكشف عمَّا سيؤول له الحضور المتزايد للمغرب، وما إذا كانت تحرُّكاته ستؤتي أُكُلها بحسم ملفات مُعلَّقة منذ عقود، فاتحة بابا أوسع للرباط لزيادة نفوذها السياسي والعسكري في غرب القارة ومع أوروبا، أم أن الأمور ستبقى قيد الشد والجذب لفترة طويلة قادمة.
سياسة | المصدر: الجزيرة | تاريخ النشر : الاثنين 28 يونيو 2021
أحدث الأخبار (سياسة)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com