Akhbar Alsabah اخبار الصباح

حقيقة مسلسل المسيح على نتفليكس

مسلسل المسيح أطلت علينا شبكة نتفليكس في أول أيام العام الميلادي الجديد بمسلسل “المسيح”. والذي تدور قصته حول شخص يظهر في دمشق مدعيًا أنه “المسيح”، فيقود جموعًا من السوريين-الفلسطينيين من مخيم اليرموك إلى الحدود “الإسرائيلية”، وتتجه إليه أنظار العالم، مع تخوفات أمريكية من أن يكون “البغدادي الجديد”.

وتستمر القصة بأن تلقي القوات “الإسرائيلية” القبض عليه حين حاول تجاوز الحدود، ورغم ذلك يظهر هذا “المسيح” بعدها عند قبة الصخرة متسببًا بانتفاضة فلسطينية جديدة، ثم يظهر في ولاية تكساس الأمريكية ومنها يتجه إلى العاصمة واشنطن، وسط ردّات فعلٍ متباينة محليًا وعالميًا، فمن يكون هذا الشخص وما هدفه وماذا يمثِّل؟

أول ما يلفت الانتباه في هذا المسلسل أنه ورغم أنه من إنتاجٍ أمريكي، إلا أنه عرض المسيح من منظور إسلامي، فمنذ بداية المسلسل يتم التعامل مع هذا الذي يدعي أنه المسيح على أنه عربي مسلم، وغالبا ما كانت تتم مناداته بـ”المسيح” (Al-Masseih) أي باللفظ العربي للكلمة، إلى أن يتم سؤاله عن دينه فيجيب أنه “يدعم البشر كلهم”. ومن هذا السؤال لننتقل ونرى نظرة المسلسل لمفهوم الدين:

الدين في مسلسل “المسيح”

لم يقتصر أتباع هذا “المسيح” على أصحاب الديانات الإبراهيمية والتي تؤمن بعودة المخلص في آخر الزمان، بل شمل شتى الطوائف والجماعات كالبوذيين مثلًا، دلالة على أن شخصية “المسيح” هنا تمثل الدين عمومًا. والخطاب الذي تبناه هذا “المسيح” كان خطاب المساواة بين الأديان ووحدتها وكذلك وحدة البشر، فهم كلهم سواء أيًا كان معتقدهم وأيًا كانت تصرفاتهم، لا يحق لك أن تكفر أحدًا منهم أو أن “تبني افتراضات عن الله”. هذا الخطاب وإن بدا مغلفًا بالتسامح، ما هو إلا إلغاء لمفهوم الدين من أساسه، حيث يتساوى الموحد لله مع من يعتقد بأن لله ولد، مع من يقدس البقر!

ولم يكتفِ المسلسل بالحديث عن الديانات عمومًا، بل قدم تصوره عن كل دين من الديانات الإبراهيمية؛ فقدم الصورة الإعلامية المشوهة المعهودة عن المسلمين، حيث الغلظة في التعامل والتركيز على آيات الجهاد والتقليل من شأن المرأة ومنع قراءة أي كتاب غير القرآن واستخدام الأحزمة الناسفة، وغير ذلك من الصور النمطية المستهلكة.

كذلك صورة العائلة المتدينة المسيحية لم تخلُ من الإساءة، فعائلة القِس مفككة فيها الابنة مدمنة والزوجة غير مؤمنة، مع الإشارة إلى ظلم التعاليم المسيحية التي تحرّم الإجهاض وكيف كان من الممكن أن تدمر هذه التعاليم حياة الابنة. كما وتم الإشارة بشكل خاطف إلى المكاسب المادية التي يجنيها رجال الدين، وهذا من خلال الهدايا التي تلقاها القِس.

العائلة المتدينة الوحيدة التي عاشت بسعادة، كانت العائلة اليهودية، وكذلك من قادت التحقيق وأعملت عقلها واكتشفت هوية هذا “المسيح”، كانت أيضًا عميلة CIA يهودية. فماذا كانت هويته؟

من ادعى أنه المسيح كان مجرد لاعب خفة إيراني محترف مدعوم من روسيا لخلق تشويش ممنهج في المجتمع، وهناك اشتباه بأنه يعاني من أمراض نفسية وأوهام جعلته يظن نفسه المسيح. أي أن هذا “المسيح” كان مجرد خدعة، وحيث أن شخصيته تمثل مفهوم الدين ككل، فإن المسلسل يريد أن يقول بأن الدين كله مجرد خدعة. وما يؤكد هذا أن عميلة الـ CIA اليهودية قالت إن السيد المسيح عيسى (عليه السلام) “كان أيضًا مجرد سياسي شعبوي يضمر الضغينة للإمبراطورية الرومانية ويقوم بخدع رخيصة لجذب الجمهور”، وهذا ما وُصِف بأنه “كلام شخص يهودي حقيقي”، وهنا تكذيب صريح للدين المسيحي وإشارة إلى أن اليهود لم تنطلِ عليهم الخدعة كغيرهم.

ينتهي الأمر بالقس بأن يحرق الكنيسة وقد كُتِب عليها “إلهٌ زائف”

وبالعودة إلى الخدع وألعاب الخفة، تقول إحدى شخصيات المسلسل أن أفضل لاعب خفة ليس من يخدعك فحسب، بل من يجعلك تشارك في الخدعة، وعلى وقع هذه الكلمات يعرض المسلسل مصير “من انطلت عليهم الخدعة”، كضحايا تفجيرات المساجد، وطفلة مصابة بالسرطان كانت أمها قد أخذتها إلى “المسيح” ليشفيها، فينتهي بها الحال جثة في حضن أمها لأنها تخلفت عن العلاج الكيماوي، وفتاة أخرى كادت تموت لأنها استمعت لكلام المسيح وألقت كلمة أمام الجمهور رغم إصابتها بالصرع.

هذا ولم ينتقد المسلسل المتدينين من عوام المجتمع فحسب، بل أنه انتقد المتدينين من القضاة والسياسيين ورجال الحكم. فبقاء المسيح المزيف داخل الولايات المتحدة واستكماله لخطته التخريبية كان بقرارٍ من قاضٍ يعاني من مرض عضال، فكيف به في آخر أيامه أن يرحِّل المسيح، ويكون مثل هيرودس الأول. وفي المسلسل كذلك، كان رئيس الولايات المتحدة متدينًا وكاد أن يمتثل لطلب المسيح المزيف ويسحب القوات الأمريكية المنتشرة في دول العالم رغم ما قد يؤديه ذلك من توسع روسي.

وبالحديث عن رئيس الدولة والسياسات الخارجية، فإنه من المثير أن المسلسل أقر أكثر من مرة -وعلى لسان شخصيات تمثل الحكومة- بأن الولايات المتحدة ترعى مصالح “إسرائيل”، وهذا ينقلنا إلى الجانب السياسي من المسلسل:

“الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي”

في بدايات المسلسل، يتم إطلاق النار على طفلٍ في الحرم القدسي، فيتساءل المشاهد: هل أتى أخيرًا المسلسل الذي سيعرض الحقيقة بلا تشويه؟! لتأتيك الإجابة سريعًا بأن من في الحرم القدسي هم “سيّاح مسلمون”، وأن إطلاق النار -الذي أشعل انتفاضة جديدة- لم يكن سوى خدعة، قام بها ذاك المسيح المزيف.

أما تلك العائلة اليهودية السعيدة -آنفة الذكر-، فكانت عائلة “إسرائيلية” يملؤها الحب، إلى أن تسببت سيارة مفخخة بموت الأم وابنها الصغير، أما الابن الأكبر الذي تشوه جسده فقد كبر وأصبح محققًا في الجيش “الإسرائيلي”، وكانت خطيئته الكبرى التي يندم عليها أشد الندم أنه قتل طفلًا فلسطينيًا، رغم أن هذا الطفل هو ابن الشخص المسؤول عن تفجير السيارة التي أودت بحياة أمه وأخيه الصغير. وقد كان هذا الطفل يعمل في مخبزٍ يصنع المتفجرات بدل الخبز، وبهذه الصورة فلا ضير لو تم قصف الأماكن المدنية والحيوية في فلسطين.

أما من يدافعون عن حق الشعب الفلسطيني بأن يتم الاعتراف به فحسب، فهؤلاء أعداءٌ للسلام ويُرَد عليهم بنفس “الخطاب المتسامح” بأن جميع الناس هم شعب واحد.

ما بين السطور

يمكن اكتشاف العديد من الرمزيات والرسائل المبطنة في المسلسل سواء في العبارات التي تقولها الشخصيات أو عناوين الحلقات أو تسلسل المَشاهد؛ رسائل ورمزيات تتعلق باصطفاء الرسل وتيه بني إسرائيل والأوبئة التي ضربت مصر -المذكورة في سفر الخروج- وغير ذلك الكثير، وسنكتفي هنا بذكر بعض هذه الرسائل:

◘ في المشهد الختامي للمسلسل، تسقط الطائرة التي تُقل المسيح المزيف، في حقلٍ من الزهور، ويأتي ولدٌ عربي يرعى الغنم معروفٌ بكذبه ليخبر اثنين ممن كانوا على متن الطائرة بأنهما كانا أمواتًا وأن هذا الشخص -أي المسيح المزيف- أحياهم، وهنا تأكيدٌ على رسالة المسلسل بأن الدين محض كذب، كما قد يرمز حقل الزهور إلى الجنة، فيكون في المشهد إنكارٌ للحياة الآخرة، وكذلك قد يرمز الوالد إلى النبي محمد ﷺ، في تكذيبٍ لرسالة الإسلام.

◘ إحدى الشخصيات الثانوية في المسلسل، شاب جامعي أمريكي اعتاد أن يدرس في المكتبة بانتظام، يشاهد هذا الشاب ما حل من فوضى وما يعانيه شباب الجامعة من ضياع “بعد عودة المسيح”، فيقرأ النسخة الإنجليزية من القرآن، وعندما يلتقي صدفةً بالمسيح المزيف، ينعته بـ “المسيح الدجال” [باللغة العربية]. بعد ذلك، هذا الشاب الجامعي المجتهد يحرق أوراقه الجامعية وكتبه -ومنها كتاب صدام الحضارات-، أي أن خرافة المسيح الدجال عند المسلمين هي ما دعت هذا الطالب الجامعي -غير المسلم- إلى إحراق كتبه بدل محاولة اكتشاف الخدعة. وفي النهاية لم يعد الشاب الجامعي يذهب إلى المكتبة، مع التركيز على اقتباس مكتوب في المكتبة يُنسب لأوبرا: “أنت تصبح ما تؤمن به” بمعنى أن ما آمن به الشاب الجامعي قاده إلى ترك المكتبة.

◘ أحد المحققين الأمريكيين كان كاثوليكي شاذ، وبعد أن يستمع لكلام المسيح حول ضرورة الصدق مع النفس، وأن الرب يحبك كيفما كنت؛ يصدق المحقق الأمريكي الشاذ المسيح، ويتصل بـ “حبيبه” القديم ليخبره بأنه سئم من الكذب على نفسه؛ في دعوة إلى التعبير عن الذات وإشارة لما يعانيه الشواذ من ضغوطات كما هو معهود من شبكة نتفليكس.

◘ خلال خطاب المسيح المزيف في واشنطن عن ضرورة تجرد الناس وتحليهم بالشجاعة ليكتشفوا ذواتهم ورؤية حقيقتهم ومن ثم سيره على الماء بعد ذلك؛ تخيلَ أحد السوريين-الفلسطينيين أن هذا “المسيح” يساعده على النهوض، فينهض ويتجرد من ملابسه ويسير عاريًا باتجاه الحدود “الإسرائيلية” فيُسمح له بالدخول. وهنا تم الربط بين التجرد المجازي والتعري الفعلي. ويظهر هذا بشكل أوضح حينما يخبر المسيح المزيف أحد الشخصيات بأن تتجرد من أعبائها وما يٌشعرها بالخزي، فتظهر الشخصية بعدها وهي تسبح، قبل أن تذهب وتبوح بسرٍ كانت تخفيه وتخجل منه. وهذا ينسجم مع أحد رسائل المسلسل بأن تعبّر عن ذاتك وتفعل ما تشاء، فالله يحبك كيفما كنت.

◘ بما أن المسيح المزيف كان جزءًا من مخطط تخريبي لخلق التشويش الممنهج في المجتمع، فالمسلسل يدافع ضمنيًا عن كل القضايا التي انتقدها المسيح المزيف في المجتمع الأمريكي، كالانتشار العسكري الأمريكي حول العالم، وكذلك تقديس المال وتقديس المرأة لعملها.

◘ أشد أتباع المسيح المزيف ولاءً له وأكثر من انطلت عليه خدعة “المسيح” كان شخصًا سمع المسيح يقول آية قرآنية، فتذكر والدته التي كانت تقول له نفس الآية وهو صغير. وأما المسلم المتشدد الذي لف حزامًا ناسفًا حول شابٍ صغير وقام بتفجير مسجد، فكان مدرسًا في مدرسة. وهنا يرسم المسلسل صورة مشوهة عن التربية الدينية -الإسلامية على وجه التحديد-.

الخلاصة

سأقتبس من المسلسل ما قالته إحدى الشخصيات حول كتاب صدام الحضارات لصامويل هنتنغتون: “عليك أن تتذكر فقط أنه كان على حق، تنبأ “هنتنجتون” بأن المحور الأساسي للصراع العالمي بعد الحرب الباردة سيكون صراعًا على الحدود الثقافية والدينية، وهذا ما يحدث بالضبط في سياسة العالم حاليًا”.

هذا ما تدركه شبكة نتفليكس جيدًا، وإن بدا أنها تتعمد إثارة الجدل كأسلوبٍ رخيص للشهرة والانتشار، إلا أن الانتشار قد لا يكون كل شيء. فهذه الأساليب الرخيصة تضع حدود ما يمكن بثه في الإعلام “الترفيهي” ككل، وبالتالي التطبيع مع كل ما قد يسيء للدين، ويمس المعتقدات والقيم.

ولم يكن مسلسل “المسيح” هو بداية الاحتفال بالأعياد عند نتفليكس هذه السنة، حيث عرضت قبله بفترة وجيزة فيلمًا “كوميديًا” قصيرًا من إنتاجها، فيه المسيح شاذ جنسيًا، ومريم العذراء تدخن الحشيش، وفيه ما لا يمكن ذكره من تجسيد وإساءة للذات الإلهية. والأمر لم يقتصر على رموز الديانة المسيحية، بل تعداه ليشمل استهزاءً صريحًا بالإله ليس فقط في الديانات الكبرى كالإسلام والهندوسية والبوذية، بل شمل ديانات كالراستافارية وغيرها.

فيلم كهذا لن يكون كوميديًا سوى لملحدين؛ فقد تم تجاوز مرحلة تشويه الإسلام (الإسلاموفوبيا) إلى تشويه مفهوم الدين ككل؛ يبدو أن الصراع بين الإنسان من جهة والشيطان وأعوانه من جهة أخرى، بات أوضح من أي وقتٍ مضى.

هذا أمر مرعب، فهو تهديد لنجاح الإنسان في الاختبار الذي خُلِق لأجله. وبالمقابل ما زال همنا الأول هو “الترفيه”، لاهثين وراء المزيد من الاستهلاك والاستعراض، غارقين في التفاهات والسخافات، فاقدين للبوصلة، زاهدين في الآخرة غافلين عنها.
سياسة | المصدر: السبيل - هادي صلاحات | تاريخ النشر : السبت 11 يناير 2020
أحدث الأخبار (سياسة)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com