حين التقيت مهاتير محمد سألته بم تنصح الحكومة المصرية بعد الثورة؟ فقال لى: هل معك ورقة وقلم؟ قلت له: طبعاً. أعطيته إياهما فرسم خطاً مستقيماً كتب بالإنجليزية على أوله من اليسار «الآن وهنا» وكتب على نهايته «هناك وعندئذ» ثم رسم عدة خطوط صغيرة تقطع الخط الطويل وكأنها عقبات فى طريقه.
ثم عقَّب قائلاً: «لا بد من تحديد ما الذى تريدونه والطريق الذى ستأخذونه، ولا تسمحوا
للعقبات أو للطرق الجانبية أن تجعلكم تنحرفون عن طريقكم الأصلى». طلبت منه أن يعطينى مثالاً للعقبات أو الطرق الجانبية، فقال: «تنظيم كأس العالم لكرة القدم مثلاً هل يخدمكم فى قضيتكم الكبرى أم هو عبء عليكم وتشتيت للجهود؟ كتابة دستور جديد أم تعديل الدستور الأصلى؟».
الحقيقة أننى لا أقول هذه الحكاية وكأن فيها عبقرية بذاتها، ولكن فى ظل تعدد الفاعلين السياسيين لدرجة الفوضى وتخبط القرارات لدرجة الفوضى ووجود معارضة أحياناً منطقية وأحياناً غير منطقية لدرجة الفوضى أيضاً، تضيع البديهيات وواحدة من هذه البديهيات الإدارية والسياسية هى «حافظ على تركيزك» أو «stay focused» وكل طاقة الدولة تكون موجهة وفقاً لخطة استراتيجية عامة من أجل تحقيق نفس الهدف.
تعالوا نأخذ واحداً من الأهداف المعلنة: «التنمية وجذب الاستثمار وتشجيع المستثمرين المحليين والأجانب»، ما الذى تفعله الدولة (بكل أجهزتها) من أجل تحقيق هذا الهدف؟ سأقول لكم: جهاز الكسب غير المشروع يثير الفزع فى مناخ الاستثمار بتحويل كثيرين إلى الجهاز دونما اعتبار إلى الرسالة التى ترسل من قِبلنا إلى المستثمرين المحليين (الذين يجتهدون الآن فى الفرار بأنفسهم وأموالهم من البلد)، وإلى المستثمرين الأجانب (الذين لا يزالون يتعاملون مع فرص الاستثمار فى مصر بقلق لأن البيئة التشريعية والقضائية غير قابلة للتنبؤ بها). وعلى مستوى آخر لا تزال العمالة المصرية فى أغلبها غير مؤهلة، والمؤهل منها غير مرتبط بالضرورة بسوق العمل وبخطة الدولة من أجل جذب استثمارات محددة فى مجالات محددة. وعلى مستوى ثالث لا تزال السياسة تعطل الاقتصاد، ولا تزال البيروقراطية متفوقة على السياسة ولا يزال القضاء ساحة للصراعات وتصفية الحسابات، ولا يزال الماضى مسيطراً على الحاضر قاتلاً للمستقبل.
المصالحة الوطنية الكبرى مسألة ممكنة، لا أعرف مدى إمكانية أن نتعرف فعلاً على من قتل أثناء أحداث الثورة، ولقد حاولت على أكثر من مستوى أن أعرف إن كانت «الداخلية» أو أى جهاز آخر لديه معلومات ليست عندى بشأن هذا الأمر، وفشلت: إما لأن الأدلة بالفعل تم تدميرها أو لأن هناك أشخاصاً سيتضررون من كشف معلومات. وبسؤال أحد القضاة من الذين أثق فى نزاهتهم بشأن هذه المسألة، كانت إجابته أن تعطيل البلد انتظاراً للقصاص قد يعنى انتحاراً لأن عملية الحصول على المعلومات مسألة فى منتهى الصعوبة، وتحديد المسئولية حتى مع توفر المعلومات مسألة أكثر صعوبة وستأخذ وقتاً طويلاً قد يصل إلى سنوات.
إذن البديل إما محاكم استثنائية قد تشفى غليل أهالى وأصدقاء ضحايا الأمس لكنها ستخلق ضحايا آخرين أُخذوا بالشبهة ودون أدلة كافية. والمسألة مرتبطة بواحد من أهم مبادئ العدالة: «هل لو لم تكفِ الأدلة، أو كانت غير دامغة تفسر ضد المتهم أم فى صالح المتهم؟» فى القضاء العادى يكون «الخطأ فى العفو خير من الخطأ فى العقوبة» كما صح الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم. أما فى القضاء الاستثنائى فالخطأ فى العقوبة خير من الخطأ فى العفو لأنه لا بد من عقوبة حتى لو كانت ظالمة.
تعالوا نرجع للخط المستقيم الذى رسمه مهاتير محمد وللخطوط العرضية التى تشتت الجهد وتعطل المسيرة سنكتشف أننا بالفعل كمن قال الحقُّ فيهم: «أَفَمَنْ يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» نحن الآن بلا صراط مستقيم ومش عارفين إحنا عايزين إيه.