Akhbar Alsabah اخبار الصباح

الدكتورة عائشة عبد الرحمن أو بنت الشاطئ

عائشة بنت الشاطئ الدكتورة/ عائشة عبد الرحمن أو "بنت الشاطئ" كما عُرفت، إحدى النساء الرائدات في الحركة النسوية والعلمية في مصر والعالم العربي والإسلامي، استطاعت بجهدها أن تتغلب على جمود التقاليد في مسألة تعليم المرأة، وأن تجتاز عقباتٍ كثيرةً، ووصفت ذلك بأنه أعنف انقلاب اجتماعي عرفه الشرق، ووصفت اللاتي حاولن اجتياز هذا الصراط الخطر ما بين أسوار الحريم إلى آفاق الحرية والعلم، بأنهن ضحايا وشهيدات، كما وصفت جيلها الذي جاءت من رحمه بأنه جيل حيرة، بين تراث متحكم من أمهات ينتمين إلى صميم عصر مضى، وبين جيل طارئ تبلوره حواء الشرق لأول مرة.

واستطاعت بنت الشاطئ أن تجتاز الطريق الوعر إلى العلم، تحنو عليها يد السماء الرحيمة ورعايتها، كما تدفعها نفسُها ورُوحها ذات المسحة الصوفية التي لا تعرف المصادفات، وترى في كل فعل حكمةً على أن تمضي في طريقها ودربها الشائك.

أما عائشة الإنسانة فلم تقل روعةً عن عائشة العالمة الجليلة، إذ أنها كانت مثالًا للصبر والجهاد، وكانت أثواب الصبر والإنابة هي الرداء المفضل لها في مواجهة عاديات الحياة؛ مِن فَقْدها لزوجها العالم الجليل/ أمين الخولي وهي في ريعان شبابها، ثم فقدانها لاثنين من أبنائها وهي في سن الشيخوخة القاسي، فكان قلمها يمتلئ ِمدادًا من مخزن الأحزان في نفسها، لكنه لا يكتب إلا ما يرضي الرب سبحانه.

وهكذا مضت حياتها الحافلة، وبقي علمها وتجربتها العميقة زادًا لمن يريد أن يتزود، وحجةً على المتكاسل، ونورًا هاديًا لمن يسلك طريق العلم وسط العقبات.

سيرة ومسيرة

ولدت عائشة في مدينة دمياط في 6 نوفمبر 1913م، في بيت جدها لأمها الشيخ/ إبراهيم الدمهوجي، وكان أبوها شيخًا أزهريًّا محافظًا، وتفتحت عينا الفتاة الصغيرة على نهر النيل الذي كان بيت جدها يقع على شاطئه، فارتبطت بالنهر وحكاياته التي كانت تقصها أمها عنه، وغرق جدتها فيه.

ولأن والدها كان شيخًا أزهريًّا فقد وهب ابنته منذ مهدها للعلم، وبدأت الدروس الجادة للصغيرة في صيف سنة 1918م، وهي في سن الخامسة، وكان من عادة والدها أن يقضي إجازة الصيف في قريته "شبرا بخوم" بمحافظة المنوفية ويصطحب أسرته معه، وهناك حفظت عائشة القرآن الكريم.

وكان والدها رافضًا أن تتلقى ابنته الصغيرة أي تعليم غير ديني، وقال لابنته الراغبة في الالتحاق بالمدرسة: "ليس لبنات المشايخ أن يخرجن للمدارس، وإنما يتعلمن في بيوتهن"، غير أن عائشة الصغيرة أصرت، وامتنعت عن الطعام بقدر ما يتحمله جسدها الغض، فرقَّ لها جدها وتوسط لدى والدها، حتى انتزع موافقة الأب بخروج ابنته للمدرسة. واشترط الأب أن تتابع ابنته دراستها الدينية في البيت، وأن تنقطع نهائيًّا عن الخروج للمدارس إذا شارفت البلوغ.

واستطاعت عائشة أن تتفوق في دراستها، وأن تُقبل بشغف شديد على دروسها الخاصة بالمنزل؛ التماسًا لرضا والدها، ولقد رأت في منامها أن مَلَكًا يهبط من السماء ويعطيها مصحفًا في لفافة خضراء، وكانت هذه الرؤية دافعًا لها في المواظبة على حضور جلسات المشايخ والعلماء، وهي لم تكمل العاشرة مندفعةً في ذلك بمنطق العاطفة، الذي قد يتحدى منطق العقل في كثير من الأحيان.

لقاء مع الصحافة

ولما أتمت دراستها الابتدائية لجأت إلى جدها لأمها تستعين به لإقناع والدها لكي تواصل تعليمها في المدرسة الراقية، إلا أن الأب غلبه العناد، فرفض خروج ابنته مطلقًا، ودار حوار عاصف بين الأب والجد، انتهى بخروج الجد مغاضبًا فصدمته دابة وسببت له ملازمة الفراش بقية حياته، فأحست الصغيرة بعقدة الذنب وعانت محنةً فوق محنتها، وعاشت مع جدها كنوع من التكفير عما حدث له بسببها، فألحقها جدها بالمدرسة على كره من أبيها، وفي بيت جدها بدأت تتعرف على الصحافة والحياة العامة عن طريق قراءة الصحف لجدها القعيد، وكتابة العرائض التي كان يمليها عليها جدها للصحف، وعلى مدى ثلاث سنوات كان هذا هو علمها المنزلي، فرقَّ لها القلم وتحسنت كتابتها، واطلعت عن قرب على مشكلات الواقع.

ولما أتمت دراستها الراقية بدمياط وبلغت سن الحجاب بدأت تتطلع لإكمال تعليمها رغم العقبات الكئود في مدرسة المعلمات، وفي تلك الفترة تُوفي جدها، وعاد إصرار أبيها لحجزها في البيت حتى كاد أن يتصدع البيت وينهار، فآثرت عائشة أن تكمل دراستها من المنزل، وأدت الامتحان في طنطا، وكانت أولى الناجحات في مصر سنة 1929م.

في بداية الثلاثينيات عملت عائشة في وظيفة "كاتبة" بكلية البنات بالجيزة، وبدأت تكتب في الصحف، وأرسلت إحدى قصائدها "الحنين إلى دمياط" إلى مجلة النهضة النسائية، والتقت بصاحبة المجلة السيدة "لبيبة أحمد" التي ألحقتها بالعمل معها، وكانت تراسل بعض الصحف باسم مستعار هو "بنت الشاطئ".

وفي تلك الفترة كانت تمارس هواية الكتابة، وتحمل عبء العمل في كلية البنات، وعبء تحرير مجلة النهضة النسائية، وإدارتها، وتتابع تحصيل المواد المقررة على طلاب البكالوريا (الثانوية العامة) حتى وصلت بعد سبع سنين إلى الباب الموصد؛ ألا وهو باب الجامعة، بعد أن حصلت على البكالوريا سنة 1934م.

وكانت علاقتها بالصحافة قد توطدت منذ أن نشرت "الأهرام" مقالاتها عن الريف المصري وقضية الفلاح سنة 1935م في صفحتها الأولى، وضمتها إلى أسرة تحرير الجريدة.

الجامعـــة

وصفت عائشة الجامعة بأنه الباب الموصد الذي وقفت أمامه طويلاً لكي يُفتح، حتى استطاعت أن تَلِج منه سنة 1935م، وتقول عن حياتها الجامعية: "ولم يحدث قط أن فُتِنتُ عن قديمي بالجديد الذي تعلمته من كتب العلوم العصرية في مراحل الطريق إلى الجامعة، بل كنت كلما تقدمت خطوةً على الطريق ازددت إدراكًا لقيمة الرصيد الثمين الذي يمنحني سمة أصالة وتفرد بين بنات جيلي".

والتحقَتْ بكلية الآداب لتتخرج فيها في قسم اللغة العربية سنة 1939م، والتقت في الجامعة بقمم مصر الفكرية والأدبية، وعلى رأسهم الأستاذ "أمين الخولي" صاحب الصالون الفكري والأدبي الشهير "مدرسة الأمناء"، وصاحب المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم، والذي تزوجته فيما بعد فكان أستاذها وزوجها.

وتصف عائشة لقاءها الأول بأستاذها أمين الخولي بطريقة صوفية، فقالت: "إن هذا اللقاء صادف يوم مولدها"، وما دام الصوفية لا يعرفون المصادفات، فإنها ربطت اللقاء بميلاد آخر لها في رحاب العلم، وتقول: "لم يتخَلَّ عني إيماني بأني ما سرت على دربي إلا لكي ألقاه، وما كان يمكن أن أحيد عن الطريق إليه، وقد عرفته في عالم المثل ومجال الرؤى وفلك الأرواح من قبل أن أبدأ رحلة الحياة".

طريق العلم

وحصلت عائشة على شهادة "الدكتوراه" عام 1950م، وناقشها د.طه حسين، وكانت في تحقيق "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعرِّي، وكان يوم المناقشة يومًا مشهودًا في الحياة الأدبية في المجتمع القاهري، أما رسالتها في "الماجستير" فكانت عن "الحياة الإنسانية عند أبي العلاء المعرِّي".

وقد أرادت عائشة أن يكون اهتمامها الأول مجال الدراسات الإسلامية في بداية حياتها العلمية الأكاديمية، وقد أشار عليها أستاذها وزوجها الخولي أن تبدأ بدراسة الأدب وتهضم اللغة التي نزل بها القرآن الكريم إذا أرادت أن تشتغل بتفسيره، فاستجابت للنصيحة الغالية المنهجية وبدأت بالدراسات الأدبية وقضت فيها نحو عشرين عامًا، ثم عادت بعد هذه الرحلة الطويلة إلى الدراسات القرآنية والإسلامية.

وتدرجت في المناصب الجامعية من معيدة بقسم اللغة العربية في آداب القاهرة، حتى أصبحت أستاذةً للتفسير والدراسات العليا في جامعة القرويين بالمغرب، مرورًا برئيس قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية الآداب جامعة عين شمس في الفترة من 1962م حتى 1972م، وعملت كأستاذ زائر بجامعات أم درمان والخرطوم والجزائر وبيروت والإمارات، وكلية التربية في الرياض، وقامت بالتدريس بجامعة القرويين قرابة العشرين عامًا.

مؤلفاتها وجوائزها

تركت بنت الشاطئ تراثًا علميًّا كبيرًا زاد على الأربعين كتابًا في الدراسات الفقهية والقرآنية واللغوية والأدبية والتاريخية؛ ففي الدراسات القرآنية والإسلامية كان لها كتب: التفسير البياني للقرآن الكريم، والقرآن وقضايا الإنسان، وتراجم سيدات بيت النبوة.

وفي الدراسات اللغوية والأدبية كُتُب: الحياة الإنسانية عند أبي العلاء المعرِّي، ورسالة الغفران، ولغتنا والحياة، وتراثنا بين الماضي والحاضر، والخنساء الشاعرة العربية الأولى، والإسرائيليات في الغزو الفكري، وأرض المعجزات ولقاء مع التاريخ، وصور من حياتهن، والقرآن وقضية الحرية الشخصية، ورابعة العدوية ورسالة الصاهل والشاحج للمعرِّي . كما سجلت جزءًا من مذكراتها في كتابها الفريد "على الجسر"، ووصفها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل بأنها "الوجه الإسلامي لمصر".

وحصلت بنت الشاطئ على جوائز وأوسمة متعددة منها: جائزتان من مَجْمَع اللغة العربية؛ الأولى في تحقيق النصوص عام 1950م، والثانية في القصة القصيرة عام 1953م، وحصلت على الجائزة الأولى في الدراسات الاجتماعية والريف المصري عام 1956م، وعلى وسام الكفاءة الفكرية من ملك المغرب عام 1967م، ووسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1973م، وجائزة الدولة التقديرية 1978م، وجائزة الآداب من الكويت عام 1988م، وجائزة الملك فيصل عام 1994م.

معاركها الفكرية

ساهمت عائشة في عدد من القضايا الساخنة المثارة في مجتمعها ومن أهم هذه القضايا: قضية المرأة وتحررها ومكانتها في الإسلام، وما دار من جدل صاخب بينها وبين العقاد في هذه القضية، حيث ارتفعت حرارة الحوار بين الاثنين ارتفاعًا كبيرًا مما أثرى ساحة الحوار الفكري والإنساني.

فقد كتب العقاد كتابًا بعنوان "المرأة في القرآن"، وأورد في كتابه فقرات فيها انتقاص للمرأة، فأورد أن النظافة ليست من خصائص الأنوثة، واعتبر أنه من الضلال في الفهم أن يخطر على بال أحد أن الحياء صفة أنثوية، أو أن النساء أشد حياءً من الرجال، وعلى هذا المنوال أخذ العقاد يكيل الاتهامات للمرأة.

ودفعت مقولات العقاد هذه عائشة لكي ترد بمقالات صحفية، وتقابل العاصفة بالعاصفة، وترجمت مشاعرها الغاضبة في مقال بعنوان "اللهم إني صائمة" وأتبعت هذا المقال بآخرَيْنِ في الرد على العقاد.

فما كان من العقاد إلا أن وجه سهام نقده اللاذع إلى بنت الشاطئ، معتبرًا أنها المثال الوحيد الماثل أمامه على تناقض المرأة، وواصفًا إياها بأنها "السِّت مفسرة القرآن".كما خاضت بنت الشاطئ معركةً أخرى عنوانها "النحو بين الأزهر والجامعة".

وفاتهـــا

عاشت الدكتورة بنت الشاطئ وحيدةً بعد وفاة زوجها أمين الخولي في الستينيات، ووفاة ابنها وابنتها، وهجرة ابنتها الثالثة مع زوجها، فوهبت بقية عمرها للعلم؛ تسلي به وَحدتها، وتنفع به أمتها، فلم يتوقف عطاؤها العلمي، وكان آخر مقال كتبته يوم 26/11/1998م بالأهرام أي قبل وفاتها بأربعة أيام، حيث توفيت في أول ديسمبر 1998م، وأعلنت وزارة الأوقاف المغربية إقامة سرادق عزاء لها، وصلى عليها شيخ الجامع الأزهر بنفسه في جنازة مهيبة لفقدان إحدى أعلام العِلم المضيئة في العصر الحديث.
إسلامنا | المصدر: الإسلام اليوم - محمد بركة | تاريخ النشر : الثلاثاء 04 ديسمبر 2012
أحدث الأخبار (إسلامنا)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com