Akhbar Alsabah اخبار الصباح

أثر الدين على رؤساء أمريكا

رؤساء أمريكا يظن بعض المسلمين أن الرؤساء الأمريكيين ليست لهم علاقة بالمرة بقضايا الدين، وأن الرئيس لا ينشغل عادةً إلا بالأمور السياسية التي تكفل له البقاء مدة أطول في الكرسي. ولعل هذا الانطباع قد جاء عند هؤلاء المسلمين نتيجة ما يرونه عادة من سلوك معظم الرؤساء المسلمين؛ حيث إن الغالب الأعم منهم لا يُظهِر تديُّنًا بشكل من الأشكال، بل على العكس فإن المعظم منهم يعتبر المتدينين منافسين له في الحكم، وبالتالي فليس مستغربًا أبدًا أن تجد الحرب المعلنة بين الحكام في المنطقة الإسلامية وبين من يرفع لواء الدين!

لكن الأمر في أمريكا ليس كذلك!

لقد تحدثنا في مقال سابق عن أهمية الدين في حياة الشعب الأمريكي، وخاصة المذهب البروتستانتي، وأن نشأة أمريكا الحديثة كانت نتيجة هروب المتدينين البروتستانت من أوربا إلى الأرض الجديدة أمريكا؛ وهذا أدى إلى وجود روح عامة من التديُّن في هذه الدولة منذ نشأتها.. وهذه الروح -ولا شك- تتعرض لفترات نشاط، وكذلك تتعرض لفترات كسل وفتور.

والمُراجِع لتاريخ أمريكا الحديث يجد أن هناك صحوة دينية بروتستانتية مع بداية الخمسينيات من القرن العشرين، وهذه الصحوة كان لها أثر مباشر على الرؤساء الأمريكيين، كما كان لها أثر مباشر على الشعب الأمريكي كذلك.

لقد شملت هذه الصحوة أرجاء أمريكا، وصار نتيجتها الرئيس الأمريكي أحد رجلين: إما رئيس متدين ينطلق في قراراته من الأصول الدينية المسيحية، وإما رئيس علماني، ولكن يضطر إلى احترام المتدينين جدًّا؛ ليظل محافظًا على منصبه دون اضطراب.

ولا يخفى علينا أن هذه الصحوة بروتستانتية في الأساس، وهذه المذهبية قضية محورية عند الشعب الأمريكي. ويكفي أن نعرف أن جميع رؤساء أمريكا في القرن العشرين كله كانوا من البروتستانت، باستثناء زعيم واحد فقط كان كاثوليكيًّا وهو جون كيندي، الذي قُتل -كما يقولون- في ظروف غامضة!!

فالشعب الأمريكي لا ينتخب كاثوليكيًّا إلا في أحيانٍ نادرة جدًّا، وحتى في هذه الأحيان فإن هذا الكاثوليكي لا يُكتب له الاستمرار في حكم أمريكا!

وكما يعلم الجميع فإن التنافس على كرسيِّ الرئاسة في أمريكا يكون في الأساس بين الحزبين (الديمقراطي) المشهور بالتحرر والليبرالية إلى حدٍّ كبير، و(الحزب الجمهوري) المشهور بالتحفظ والتدين بشكل عام. ولقد وجد الحزب الجمهوري في هذه الصحوة الدينية فرصة كبيرة لتدعيم مركزه ضد الحزب الديمقراطي؛ ولذلك عقد الحزب الجمهوري تحالفًا واضحًا مع قادة اليمين المسيحي المتشدد (كلهم من البروتستانت)؛ لكي يضمن تشجيعهم له في انتخابات الرئاسة، وكذلك في انتخابات مجلس الشيوخ والمحليات وغير ذلك.

وأثمر هذا التحالف القوي عن فوز الحزب الجمهوري بالمركز الرئاسي في تسع مرات من أصل خمس عشرة مرة منذ بداية الخمسينيات وحتى الآن (60 %)، مع سيطرة شبه مستمرة على مجلس الشيوخ والكونجرس، وهذا دعا إلى بروز الخطاب الديني في كلمات الرؤساء الأمريكيين، حتى العلمانيون منهم؛ لعدم قدرتهم على مواجهة التيار الأصولي المتنامي في القوة.

وفي السبعينيات زادت الحركة الدينية نشاطًا في أمريكا، وظهر ما يُعرف بالكنائس التليفزيونية، التي نشرت فكرًا دينيًّا عند عموم الشعب الأمريكي، كما ازدادت الطوائف الأصولية قوة، وذلك مثل الطائفة المعمدانية (Baptist)، والطائفة المنهجية (Methodist)، بل نما جدًّا تيار "المسيحيين المولودين من جديد" (Born Again Christians)، وهو أكثر التيارات المسيحية اعتقادًا في مسألة قدسية اليهود وعصمتهم، بل وصل إلى كرسيِّ الحكم في أمريكا سنة 1976م لأول مرة في تاريخها، رئيسٌ متدين ينتمي إلى هذا التيار الأصولي، وهو الرئيس جيمي كارتر، الذي أعلن صراحةً في خطاب له أمام الكنيست سنة 1979م أن العلاقة بين أمريكا وإسرائيل هي علاقة دينية في الأساس، وكان مما قاله: "إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة، لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يمكن تقويضها؛ لأنها متأصَّلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي".

ثم حدث تطور أكبر عندما ظهر على الساحة السياسية في أمريكا المرشح الجديد للرئاسة (رونالد ريجان)، وقد أعلن بوضوح في سنة 1980م بعد مؤتمر ترشيحه للرئاسة أنه سيؤيد تمامًا الأجندة الأخلاقية لليمين المسيحي، وكان من نتيجة ذلك أن قامت منظمة "الأغلبية الأخلاقية" -وهي منظمة مسيحية متشددة، أسسها القس الأمريكي (جيري فالويل) سنة 1979م- بحشد ثلاثة ملايين ناخب أمريكي لترجيع كفة رونالد ريجان في الانتخابات، كما قام رونالد ريجان بزيارة المنظمة اليهودية "بناي برث" في واشنطن، وذلك أثناء حملته الانتخابية، وخطب هناك قائلاً: "إن إسرائيل ليست أمة فقط، بل هي رمز؛ ففي دفاعنا عن حق إسرائيل في الوجود، إنما ندافع عن ذات القيم التي بُنيت على أساسها أمتنا".

ونجح ريجان في الانتخابات! بل ونجح مرة ثانية، ليستمر في الحكم ثماني سنوات من 1981 إلى 1989م، وكان في كل هذه السنوات -كما يقول الكاتب الأمريكي جيمس ميلز- ينطلق في سياسته من إيمانه بتنبؤات الكتاب المقدس، وخاصة سِفر حزقيال، وما جاء فيه من أن الرب سيأخذ أولاد إسرائيل إلى الأرض الموعودة. وكان ريجان كثيرًا ما يصرح بإيمانه بموقعة هرمجدون، ولقاء المسيحيين مع الكفار، والمجيء الثاني للمسيح، ولقد قال في يوم من الأيام لمدير اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشئون العامة (إيباك)، وهو يهودي بالطبع: "عندما أعود بالذاكرة لأنبيائكم الأقدمين في التوراة، والعلامات التي تتنبأ بالمعركة الفاصلة هرمجدون، أجدني أتساءل: إذا كنا نحن الجيل الذي سيشهد وقوعها".

وسار على نفس الطريق جورج بوش الأب، بل إنه قدَّم أجلَّ الخدمات للكيان الصهيوني، وللتيار المسيحي المتشدد، وذلك بالتواجد العسكري الدائم في منطقة الشرق الأوسط؛ ليصبح حُلم هرمجدون قريب الحدوث، ولتتحرك العواطف بشكل أكبر من دولة اليهود.

ثم هدأت لغة الخطاب الديني إلى حد كبير في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون (1993- 2001م)، إلا أنها عادت، وبقوة أشد من كل الفترات السابقة، عندما اعتلى عرش أمريكا الرئيس الأمريكي المتشدد جدًّا جورج بوش الابن! ولم يكن تشدُّده واضحًا فقط في شخصه، بل وفي كل حكومته؛ فقد كانت أصولية من الدرجة الأولى، وهو الذي لم يتردد في أن يعلن أن اليهود هم الشعب الوحيد الذي اختاره الله، وكان يرى أن الضفة الغربية وقطاع غزة منحة ربانية لليهود لا يجوز التنازل عنها! ولم يكن يبدأ يومه -كما أعلن بنفسه- إلا بقراءة صفحات من الكتاب المقدس. بل إنه لم يتردد أن يُعلن -كما سمع الجميع- أن حربه ضد المسلمين هي حرب صليبية! وأنا لا أعتبرها سقطة ينبغي الاعتذار عنها، ولكنها صراحة شديدة، وأمانة في نقل الأفكار والمشاعر!!

ومع أن باراك أوباما ديمقراطي ليبرالي إلا أنه لا يستطيع أن يخرج عن المسار، ومع أن جذوره مسلمة إلا أنه يُعلن أنه بروتستانتي يؤمن بكل معتقدات البروتستانت، ولن يعمل ضدها أبدًا؛ إما رغبًا وإما رهبًا!!

وإن الأمور في غاية الوضوح، والدين يُعتبر من أهم المحرِّكات للإنسان، بل هو أهمها في كثير من الأحيان، والرؤساء الأمريكيون لا يخفون ذلك ولا يخشونه، بل يعلنونه ويفتخرون به؛ لأنهم يعلمون أثر الدين في تحريك الشعوب.

ألاَ يأتي علينا يومٌ نرى فيه زعماء المسلمين يبدءون يومهم بقراءة صفحات من القرآن الكريم، ويخطبون وُدَّ المتمسكين بالإسلام، ويتحدثون عن نبوءات القرآن والسُّنة، ويدافعون عن عقيدة عظيمة سليمة غير محرَّفة هي عقيدة الإسلام؟!

لقد حدث هذا في أمريكا، أفلا يحدث في بلاد المسلمين؟!

إن القارئ قد يجد السؤال هزليًّا، وأن الإجابة سلبية لا محالة، ولكني أبشِّر كل القارئين أن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!

ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.
إسلامنا | المصدر: د. راغب السرجاني | تاريخ النشر : الأربعاء 07 نوفمبر 2012
أحدث الأخبار (إسلامنا)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com