Akhbar Alsabah اخبار الصباح

أين ذهبت مكة؟

ابراج مكة "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ" (الحج: 27)

الحج.. البيت الحرام.. الفريضة الخامسة على من استطاع السبيل.. مكّة التي يشتاقُ لها مسلمو الأرض.. من كلّ عرق، من كلّ جنس، من كل فجّ.. لم أعد أشتاقُ إليها.

ليست لي سبيلٌ لأستطيع من خلالها الوصولَ إلى مكة "زادي لن يبلّغني".. كنت أظنّه من قبل عائقًا؛ فإذ بي أراه اليوم رحمة ورأفة من ربّ العالمين، أن قَطَع عنّي السبيل إلى البيت الحرام.. فإنّي إن زرتُ مكّة فلن أقوَ على مواجهة الحقيقة.


أين ذهبت مكة؟ لم أجدها! بحثت عنها بين الأبراج الشاهقات والفنادق السامقات، فلم أجدها!

حين دَلفتُ إلى البيت الحرام، وجدت أمامي الكعبة.. وحيدة، فريدة، باقية على رغم ما فَنَى من الديار. طفتُ بالكعبة، وسط الجموع الفلكية، الزحام لا يبرح المكان! هذا ليس مكان خلوة.. أرشَدوني للطواف في الدور الثاني، دور التوسعة، الذي لم يكن موجودًا سوى من سنين قلائل. وحين ذهبت إلى السعي، قيل لي فلتستأجري عربة، تقودينها بين الصّفا والمروة، مثلَ العربة التي كنتِ تقودينها في الملاهي وأنت صغيرة.. لا تَجهَدي مثلما جَهِدت هاجر، يكفيكِ الظاهر. ولنا في الحداثة راحة.

بحثت عن بقعة للدعاء، والتضرّع، لرُوحانية فقدتها في القاهرة، وجئت لمكّة بحثًا عنها. النّاس من حولي يحملون النُّسَخَ الأخيرة من الهواتف الذكية، يلتقطون الصور، والصور السيلفي، ومقاطع الفيديو الصغيرة.. مشغولون بهواتفهم، متّصلون بالإنترنت، تتسمّر أعينهم في هواتفهم حتى ينشروا صورهم ومقاطعهم على مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي.. الحج الآن على الهواء مباشرة...ليس رحلةً فردية روحانية جوّانيّة، بل عادت رَقميّة، تفاعلية، تشاركية، تارةً على فيس بوك، وتارةً على تويتر، وواتس آب...أتساءل: هل سنسمع قريبًا عن الحجّ الإلكتروني؟ أو الحج التكنولوجي؟ حيث يمكنك الحج وأنت في القاهرة من خلال تطبيقات هواتف ذكية؟ ربما يكون هذا تحدٍّ قادم أمام الفقهاء لا يعملون له حسابًا! ولكنّي أدعو: اللهم أجرنا!



تطلّعت للسماء وأنا أدعو، فارتطمت عيني بالعلامة التجارية لفندق هيلتون، وارتطمت الأخرى بأبراج البيت، وساعة مكّة، أكبر ساعة في العالم! تنزوي الكعبة في وحدتها تواضعًا أمام تلك الضخامة الفجّة.. ذهب ما كنتُ أريد أن أدعو به أدراجَ الرياح.

تجولت في الحرم أحاول البحث عن مهد الإسلام، فأخذتني رجفة الخوف...

"بيت آمنة" الذي وُلد فيه نبي الإسلام لم أجده، عرفت من رفيقتي في الحجّ أنّها صفّت سيارتها في "الجراج" حيث كان بيت آمنةّ! دُمّر البيت الذي ولد فيه رسول الله وتحول لجراج سيارات.

أخذتني شهقة!

بيت آمنة الذي بقي على حاله ألفًا وأربعمائة عام، هُدم وتحوّل إلى جراج سيارات مع مطلع الألفية! تبًّا للسيّارات وتبًّا للحداثة! قيل لي أنّ بيتَ آمنة كان مكتبة قبل أن يكون جراج سيارات، وقبل أن يكون مكتبة، كان مزرعة لتربية الماشية عام 1920 حين استولى آل سعود على الحكم.

ملأتني حسرة!

بحثت عن بيت خديجة، البيت الذي هرع إليه رسول الله حين نَزَل عليه الوحي، فدثّرته خديجة وثبّتته! بيت من سُمّيتُ قصدًا على اسمها.. بيت خديجة بنت خويلد.

قيل لي: ألا تحتاجين لدورة مياه؟ لتتوضئي وتصلّي؟.. قلت: بلى، قيل لي: هناك حيث كان بيت خديجة، ستجدين دورة المياه، توسعات الحرم الجديدة اقتضت هدم بيت خديجة ليتحوّل مكان الحي إلى مكانٍ لقضاء الحاجة!

ازدردت ريقي ولم أتفوّه بكلمة...

أردت زيارة بيت الصدّيق أبي بكر، فقيل لي: "هل تستطيعين دفع 500 دولار ثمنًا لمبيت ليلة واحدة؟" أزيل بيتُ أبو بكر، وأضحى فندق هيلتون مكانَه! ليس لي! هذا لأثرياء المسلمين، ليصبوا أموالهم في جيوب الرأسمالية الوقحة ثمنًا لعبادتهم!

جبل النور بمكة المكرمة، والذى يوجد فى قمته غار حراء.. حيث نُزّلَ الوحي على رسول الله، اختفى، انضوى تحت أقدام أكبر مشروع عقاري استثماري في العالم: مشروع توسعة البيت الحرام.

أبراج البيت بساعتها الضخمة، ثالث أكبر ناطحة سحاب في العالم، تدفن تحتها أكثر من أربعمائة مكان أثري يعود لمهد الإسلام، لمهد الوحي، لمحلّ الدعوة الأولى لرسول الله، للمكان الذي تحلّق حوله المسلمون الأُوَل، للمكان الذي ثبتته فيه خديجة، وأعزه الله بحمزة عمّه، وبعمرَ بن الخطّاب، للمكان الذي ابتُلِيَ فيه بلال، وآل ياسر، على إيمانهم، للمكان الذي وُعدوا فيه بالجنّة.

لم يعد هناك سوى الكعبة، في فرادتها ووحدتها، مجرّدة من تاريخيتها، ومن "عَالَم الكعبة" العالم الذي تحلّق حولها في طبقات الزمن، ليحكي قصّة التوحيد، من لدن إبراهيم حتّى محمّد.

الكعبة في وحدتها وفرادتها، وما تبقّى من الحجر الأسود الذي دمّرته الدولة السعودية الأولى في عام 1806 باقيان وحدهما يفتك بهما وحش الحداثة، وحش الألفية الذي ما فَتِئَ يسلبنا كل قيمة روحانية.

يقول شيوخ الوهابية الذين ساندوا وأيّدوا تدمير "عالَم مكة" أن تعظيم أماكنَ تاريخية أو زيارتها شوقًا أو تبركًا هو شرك بالله! وفي أحسن الأحوال، قد يؤدّي إلى الشّرك. ولكن في حين أنّهم يريدون هذا الهدف، فإنّهم قد نزعوا الكعبة من مهدها ومن سياقها التاريخي، وخلّوها هكذا وحدها خارج الزمن ، وخارج التاريخ... مُطلَقة، مغرية بالتقديس، ما يمكن أن يكون محلّ شرك وهو ما يدّعي الوهابية الخوف منه. بات ما فعلوه هو عينُ ما خافوا منه؛إذ لا يمكن تقديس ما هو زمني، ما هو تاريخي! على خلاف المنزوع عن الزمن، عن التاريخ، المطلق، الذي لا يُعرف له بداية ونشأة، المغري لذلك بالتقديس.

الكعبة أضحت وحدها محاطة بناطحات السحاب والفنادق الرأسمالية الجشعة، وأضحت رحلة الحج، مثل أي رحلة سياحية، لأي مسلم ذي مال! رحلة يمارس فيها شعائر الحج وشعائر التسوق في آنٍ، رحلة تعطي الحاجّ/السائح متعة الحج ولا تحرمه متعة الاستهلاك. لم يعد الحج رحلة العمر التي يشتاق فيها المسلم إلى الحرمين، فيعقد العزم حتى تتيسر له السبيل، فيصل مشتاقًا إلى مهد الإسلام! لا، غدا رحلة سياحيّة مكوكية، يحج فيها من امتلأت جيوبه من مشروع استثماري عقاري شبيه بمشروع توسعة الحرمين، ويُحرم فيها الفقير والمستور، ويحرم كليهما من معاني الحجّ العظيمة.

أشتاق إلى مكّة، التي ذهبت ولن تعود!
إسلامنا | المصدر: مدونات الجزيرة - خديجة جعفر | تاريخ النشر : الخميس 31 اغسطس 2017
أحدث الأخبار (إسلامنا)
يمكنكم متابعة احدث اخبارنا عن طريق شبكات التواصل الاجتماعى المختلفة
facebooktwitterRss
®أخبار الصباح AkhbarAlsabah.com